.. كما كانوا يرون أن من الخيانة العلمية والدينية التى لا تغتفر أن ينصب من التحليلات الشخصية؛ والرغبات النفسية، التى هى فى الغالب من انعكاسات البيئة، ومن ثمار العصبية، حاكم مسلط يستبعد منها ما يشاء، ويحور فيها كما يريد.
... ضمن هذه الوقاية من القواعد العلمية، وعلى ذلك الأساس من النظرة الموضوعية للتاريخ، وصلت إلينا سيرة المعصوم صلى الله عليه وسلم بدءاً من نسبه، وولادته، إلى طفولته، فصبوته اليافعة، إلى الإرهاصات الخارقة التى صاحبت مراحل طفولته، وشبابه، إلى بعثته، وظاهرة الوحي التى تجلت فى حياته، إلى أخلاقه، وصدقه، وأمانته، إلى الخوارق والمعجزات التى أجراها الله تعالى على يده، إلى مراحل الدعوة التى سار فيها لتلبية أمر ربه، من سلم، فدفاع، فجهاد مطلق حيثما طاف بالدعوة إلى الله تعالى أى تهديد، إلى الأحكام والمبادئ الشرعية التى أوحى بها إليه، قرآناً معجزاً يتلى، وأحاديث نبوية تشرح وتبين.
... لقد كان العمل التاريخى إذن بالنسبة إلى هذه السلسلة من سيرته صلى الله عليه وسلم ينحصر فى نقلها إلينا محفوظة مكلوءة، ضمن تلك الوقاية العلمية التى من شأنها ضبط الرواية من حيث الإسناد واتصاله، ومن حيث الرجال وتراجمهم، ومن حيث المتن أو الحادثة، وما قد يطوف بها من شذوذ، وعلة.
... أما عملية استنباط النتائج والأحكام، والمبادئ، والمعانى، من هذه الأخبار (بعد القبول التام لها) فعمل علمى آخر يميز بعلم الحديث رواية، وهو عمل علمى متميز، ومستقل بذاته، ينهض بدوره على منهج وقواعد أخرى، من شأنها أن تضبط عملية استنباط النتائج والأحكام من تلك الأحداث، ضمن قالب علمى يقصيها عن سلطان الوهم، وشهوة الإرادة النفسية، والتى عبر عنها أعداء الإسلام من خصوم السيرة العطرة الواردة فى السنة المطهرة بصياغاتهم الخبيثة التى سبق ذكر بعضها فى أول هذا الفصل.