وقد روى البخاري (٢٠٣٢) وأبو داود والنَّسائي والدارَقُطني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما {أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كنتُ نذرتُ في الجاهلية أن اعتكف ليلةً في المسجد الحرام قال: أوف بنذرك} ووقع عند البخاري في رواية ثانية من طريقه (٢٠٤٢) لفظ { ... فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أوف نذرَكَ، فاعتكف ليلةً} وهذا دليل صحيح يرد قول الحنفية بأنَّ أقل الاعتكاف يوم، فاليوم هو نهار وليل. ويرد قول المالكية بأنه يوم وليلة. ومع ذلك فإِنَّا نقول إِن هذا النص لا يفيد تحديدَ الأقل بليلة، وإنما جاء هو الآخر واقعة عين فحسب. وقد روى ابن أبي شيبة (٤/٥٠١) عن الصحابي يعلى بن أمية رضي الله عنه أنه كان يقول لصاحبه {انطلقْ بنا إلى المسجد، فنعتكف فيه ساعةً} وروى عبد الرزاق (٨٠٠٦) وابن حزم عنه قوله {إني لأمكث في المسجد ساعة، وما أمكث إلا لأعتكف} وهو أثرٌ يُستَأنَسُ به.
وعليه فإني أقول: إن الاعتكاف غير محدِّدٍ بمدة، فيصحُّ الاعتكاف شهراً ويصحُّ شهرين، كما يصح الاعتكاف ساعة ويصحُّ ساعتين، وما دام ذلك كذلك فإنه يصح البدء في الصباح، كما يصحُّ وقت الظهيرة أو عقب صلاة العصر، أو بعد صلاة العشاء أو عقب صلاة الفجر دون حرج، ودون أي مانعٍ شرعي، ولا حاجة للتَّمسُّكِ بقول ذلك الفريق من أن بدء الاعتكاف يجب أن يكون قبل غروب الشمس فحسب، أو بقول الفريق الآخر من أنَّ البدء يجب أن يكون عقب صلاةِ الصبح. فالاعتكاف كما عرَّفناه في البدء [الَّلبثُ في المسجد مدَّةً على صفةٍ مخصوصة مع نية التقرب إلى الله سبحانه] هو تعريف واضح فيه أنه أطلق المدة فلم يقيدها بأي قيد.