قد يقال إن ذِكْر المساجد في النصوص لم يأت كشرط، وإنما جاء مجرد خبر عما كان يحصل وأن ما جاء كخبرٍ لا يُعتبر شرطاً؟ فنجيب عليه بأن الآية قد خُتِمت بالقول {تلك حدودُ اللهِ فلا تَقْربوها كذلك يُبَيِّنُ اللهُ آياتِه للناسِ لعلهم يتقونَ} مما ينفي عما جاء في صدرها من أحكام أن تكون أخباراً لا تُلتَزَم، فقولُ الآيةِ الكريمة:{ولا تُباشِروهُنَّ وأَنتم عاكفونَ في المساجد} يدخل تحت القول {تلك حدودُ اللهِ فلا تقْربوها} ولا يصح أن يدخل تحت القول الأخير لو كانت المباشرة مثلاً في غير المساجد، أو كانت الأفعال في المساجد لا تصل إلى حدِّ المباشرة، وهي هنا الجماع، كما روى البيهقي (٤/٣٢١) وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد، قال: المباشرةُ والملامسةُ والمسُّ جِماعٌ كله ولكن الله عزَّ وجلَّ يَكْني ما شاء بما شاء} ونقل ابن المنذر الإجماع على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع، فكان ذِكْرُ المباشرةِ وذِكْرُ المساجد أمرين لازمين غير منفصلين، مما ينفي عنهما الإِخبار المجرَّد.
...ثم انظروا في الحديث الخامس (ومن كان اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرجعْ، فرجع الناس إلى المسجد) فهو أمر منه عليه الصلاة والسلام بالرجوع إلى المسجد لمن كان قد اعتكف، ولولا أن المسجد هو مكان الاعتكاف لما صدر الأمر النبوي هكذا.
...وأما الآثار المروية عن الصحابة والتابعين، فهي لا تعدو كونها آراءً اجتهاديةً لأصحابها. أما قول ابن المسيِّب في البند الرابع، فلا يعارض ما ذهبنا إليه من وجوب المسجد للاعتكاف بقدر ما يوفقنا، وما هو إلا بيان لأفضلية هذه المساجد بعضها على بعض.