...وأما الحديث السادس (إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطَر الصلاة) فقد بيّنَّا قبل قليل دلالته ومعناه، فلا نعيد. وبذلك يتضح أن هذه التي سمَّوها أدلة هي في حقيقتها شبهات لا تدل على ما ذهبوا إليه.
وأما ما ذهب إليه الكثيرون من تفضيل الصيام على الإفطار، وما ذهب إليه الآخَرون من تفضيل الإفطار على الصيام، فإن كل فريق منهما قد أخذ من الأحاديث المارة ما يراه دالاً على رأيه، دون أن يُجهد نفسه بالنظر في الأحاديث كلِّها، فمثلاً: قال قائلون إن الفطر أفضل عملاً بالرخصة الواردة في الأحاديث، وبالقول ليس من البر الصوم في السفر. وقال آخرون إن الصيام أفضل، أخذاً بآخر الحديث رقم ٧ المار قبل قليل (وما فينا صائم، إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رَوَاحة) . وبالحديث رقم ١٢ المار قبل قليل أيضاً (ثم رأيتُنا نصوم مع سول الله صلى الله عليه وسلم بعدَ ذلك في السفر) وبالحديث الذي كنا بصدده قبل قليل (فكانوا يأخذون بالأَحدث فالأَحدث من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولا يصح الاجتهاد، بل ولا يجوز، دون أن ينظر المجتهد في جميع النصوص الواردة ويضعها كلها على صعيد البحث، لا أن يأخذ منها القسم الذي يراه دالاً على رأيه ويدع القسم الآخر.
قدرُ مسيرةِ ما يفطر فيه:
ذهب أصحاب الرأي ومالك والشافعي والأوزاعي ويحيى الأنصاري وإبراهيم النخعي والزُّهري ومكحول إلى أن المقيم إذا نوى الصيام ثم سافر فلا يجوز له أن يفطر بل يستمر صائماً، أما المسافر فإنه، وإن نوى الصيام من الليل ثم أراد أن يفطر، فإن له ذلك، وأجاز ذلك أحمد وإسحق بن راهُويه والحسن البصري والمُزَني وداود بن علي وعامر الشعبي وابن المنذر والشوكاني وعطاء.