فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَالْفِرَارُ مِنَ الْعَوَارِضِ بِالسِّيَاحَةِ، وَاتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ، وَسُكْنَى الْجِبَالِ وَالْكُهُوفِ؛ إِنْ كَانَ عَلَى شَرْطِ أَنْ لَا يُحَرِّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي حَرَّمَهَا الرُّهْبَانُ، بَلْ عَلَى حَدِّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْحَوَاضِرِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ؛ لَا يُشَدِّدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمِقْدَارِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الرَّهْبَانِيَّةِ؛ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تُسَمَّى رَهْبَانِيَّةً إِلَّا بِنَوْعٍ مِنَ الْمَجَازِ، أَوِ النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ الَّذِي لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مُعْتَادُ اللُّغَةِ، فَلَا تَدْخُلُ فِي مُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: ٢٧]؛ لَا فِي الِاسْمِ وَلَا فِي الْمَعْنَى.
وَإِنَّ كَانَ عَلَى الْتِزَامِ مَا الْتَزَمَهُ الرُّهْبَانُ؛ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَلَا مُبَاحٌ؛ لِأَنَّهُ كَالشَّرْعِ بِغَيْرِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَنْتَظِمُهُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي؛ فَلَيْسَ مِنِّي».
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ تَفْضِيلِهِ الْعُزْلَةَ عَلَى الْمُخَالَطَةِ، وَتَرْجِيحِ الْغُرْبَةِ عَلَى اتِّخَاذِ أَهْلٍ؛ عِنْدَ اعْتِوَارِ الْعَوَارِضِ؛ فَذَلِكَ يَسْتَمِدُّ مَنْ أَصْلٍ آخَرَ لَا مِنْ هُنَا.
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمَطْلُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ قَادِرًا عَلَى الِامْتِثَالِ فِيهَا مَعَ سَلَامَتِهِ عِنْدَ الْعَمَلِ لَهَا مِنْ وُقُوعِهِ فِي مَنْهِيٍّ عَنْهُ أَوْ لَا:
فَإِنْ كَانَ قَادِرًا فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ بِحَيْثُ لَا يُعَارِضُهُ مَكْرُوهٌ أَوْ مُحَرَّمٌ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي كَوْنِ الطَّلَبِ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ عَلَى حَدِّ مَا كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَيْهِ قَبْلَ وُقُوعِ الْفِتَنِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute