وَأَيْضًا، فَقَدْ يَجْرِي عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي لِلْأُصُولِيِّينَ فِي الِاسْتِحْسَانِ. وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ لَا تُسَاعِدُهُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِهِ.
وَهَذَا التَّأْوِيلُ؛ فَالِاسْتِحْسَانُ يُسَاعِدُهُ لِبُعْدِهِ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ أَنْ يَبْتَدِعَ أَحَدٌ بِدْعَةً مِنْ غَيْرِ شُبْهَةِ دَلِيلٍ يَنْقَدِحُ لَهُ. بَلْ عَامَّةُ الْبِدَعِ لَا بُدَّ لِصَاحِبِهَا مِنْ مُتَعَلِّقِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ. لَكِنْ قَدْ يُمْكِنُهُ إِظْهَارُهُ وَقَدْ لَا يُمْكِنُهُ ـ وَهُوَ الْأَغْلَبُ ـ فَهَذَا مِمَّا يَحْتَجُّونَ بِهِ.
وَرُبَّمَا يَنْقَدِحُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَجْهٌ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا أَهْلُ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلُونَ، وَقَدْ أَتَوْا بِثَلَاثَةِ أَدِلَّةٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: ٥٥] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: ٢٣] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: ١٧] هُوَ مَا تَسْتَحْسِنُهُ عُقُولُهُمْ.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ مَا رَأَوْهُ بِعُقُولِهِمْ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ حُسْنُهُ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ لَمْ يَكُنْ مِنْ حُسْنِ مَا يَرَوْنَ، إِذْ لَا مَجَالَ لِلْعُقُولِ فِي التَّشْرِيعِ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute