مَا وَجَدْنَا إِلَى الْعُدُولِ عَنْهُ سَبِيلًا فَيَكُونُ حَمْلُ الشُّهُودِ عَلَى مُقْتَضَى الْعَدَالَةِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ يَجُرُّ ذَلِكَ الْإِمْكَانَ الْبَعِيدَ، فَلَيْسَ هَذَا حُكْمًا بِالْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمَسُّكٌ بِاحْتِمَالِ تَلَقِّي الْحُكْمِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهَذَا يَرْجِعُ ـ فِي الْحَقِيقَةِ ـ إِلَى تَحْقِيقِ مَنَاطِهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنْ يَتْرُكَ الدَّلِيلَ لِلْعُرْفِ، فَإِنَّهُ رَدَّ الْأَيْمَانَ إِلَى الْعُرْفِ، مَعَ أَنَّ اللُّغَةَ تَقْتَضِي فِي أَلْفَاظِهَا غَيْرَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعُرْفُ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ مَعَ فُلَانٍ بَيْتًا: فَهُوَ يَحْنَثُ بِدُخُولِ كُلِّ مَوْضِعٍ يُسَمَّى بَيْتًا فِي اللُّغَةِ، وَالْمَسْجِدِ يُسَمَّى بَيْتًا فَيَحْنَثُ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ عُرْفَ النَّاسِ أَنْ لَا يُطْلِقُوا هَذَا اللَّفْظَ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ بِالْعُرْفِ عَنْ مُقْتَضَى اللَّفْظِ فَلَا يَحْنَثُ.
وَالْخَامِسُ: تَرْكُ الدَّلِيلِ لِمَصْلَحَةٍ، كَمَا فِي تَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَانِعًا، فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَتَضْمِينِ صَاحِبِ الْحَمَّامِ الثِّيَابَ، وَتَضْمِينِ صَاحِبِ السَّفِينَةِ، وَتَضْمِينِ السَّمَاسِرَةِ الْمُشْتَرِكِينَ، وَكَذَلِكَ حَمَّالُ الطَّعَامِ ـ عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ ـ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ، وَلَاحِقٌ عِنْدَهُ بِالصُّنَّاعِ. وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ السَّبَبِ فِي تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا مِنْ بَابِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لَا مِنْ بَابِ الِاسْتِحْسَانِ، قُلْنَا: نَعَمْ! إِلَّا أَنَّهُمْ صَوَّرُوا الِاسْتِحْسَانَ بِصُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْقَوَاعِدِ. بِخِلَافِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي مَسْأَلَةِ التَّضْمِينِ. فَإِنَّ الْأُجَرَاءَ مُؤْتَمَنُونَ بِالدَّلِيلِ لَا بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ. فَصَارَ تَضْمِينُهُمْ فِي حَيِّزِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute