فلم يَدَعوا لأحدٍ بعدهم مَقالًا، فتحوا القلوبَ بعَدْلهم بالقرآنِ والإيمانِ، والقُرَى بالجهادِ بالسَّيفِ والسِّنانِ، وأَلْقَوا إلى التَّابعينَ ما تَلقَّوهُ من مِشْكاةِ النُّبُّوةِ خالصًا صافيًا، وكانَ سندُهُم فيهِ عن نَبيِّهم -صلى الله عليه وسلم- عن جبريلَ، عن ربِّ العالمينَ سندًا صحيحًا عاليًا، وقالوا: هذا عهدُ نَبيِّنا إلينا، وقد عهدنا إليكم، وهذهِ وَصيَّةُ ربِّنا، وفَرْضهُ علينا، وَهِيَ وصيَّتهُ وفَرْضهُ عليكم، فجرى التَّابعونَ لهم بإحسانٍ على مِنْهاجهمُ القويم، وَاقْتَفوا على آثارهم صِرَاطهمُ المُسْتقيم، ثمَّ سلكَ تَابعو التَّابعينَ هذا المسلكَ الرَّشيد {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}[الحج: ٢٤]، وكانوا بالنِّسبةِ إلى مَنْ قبلهم كما قَالَ أصدقُ القائلين: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: ١٣ - ١٤].
فَسَلَكوا على آثارِهمُ اقتصاصًا، وَاقْتَبسوا هذا الأمرَ عن مِشْكَاتهمُ اقتباسًا، وَكَانَ دينُ الله سبحانهُ أجلَّ في صُدُورهم، وأَعْظَمَ في نُفُوسهم من أن يُقدِّموا عليهِ رأيًا، أو معقولًا، أو تقليدًا، أو قياسًا، فَطارَ لَهُمُ الثَّناءُ الحسنُ في العَالَمينَ، وَجعلَ اللهُ سبحانهُ لهم لسانَ صِدْقٍ في الآخرين.
ثمَّ سَارَ على آثَارِهمُ الرَّعيلُ الأوَّلُ من أَتْباعِهِمْ، ودَرجَ على مِنْهاجهمُ المُوفَّقونَ من أشياعهم، فَكَانت قاعدةُ دَعْوتِهم قولَه تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يونس: ١٠٨]، فكَانَ تَبْليغُهُم على نوعين: تبليغِ أَلْفاظِهِ وما جَاءَ به، وتَبْليغِ معانيهِ، فَانْحَصروا في قسمين:
الأَوَّل: حُفَّاظُ الحديث.
الثَّاني: فُقَهاءُ الإسلام.
فأمَّا حُفَّاظُ الحديثِ، فَهُم جهابذتُهُ، ونُقَّادهُ الَّذينَ هم أئمَّةُ الأنام، الَّذينَ حفظوا على الأُمَّة معاقدَ الدِّينِ ومَعاقلَه، وحَمُوا منَ التَّغييرِ والتَّكْديرِ مَواردَهُ ومناهلَهُ، وهُمُ الَّذينَ قَالَ فيهمُ الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ في خطبتِهِ المشهورةِ في كتابِهِ في الرَّدِّ على الزَّنادقةِ وَالجَهميَّةِ: