"ومنهم من يضيع كثيراً من أوقاته في طلب القضاء وغيره من المناصب؛ فإن كان مراده القوت، فالقوت يجئ بدون ذلك، وإن كان مراده الدنيا، فقد كان في اشتغاله بضعة الأجناد، والدواوين، وغيرهم من العامة، ما لعله أنجح في مقصده؛ فإن الدنيا في ايدي أولئك أكثر بكثير.
ومنهم من يقول: أكرهت على القضاء؛ قال ابن السبكي، وأنا منذ عمري، وإلى الآن لم أر من أكره على القضاء الإكراه الشرعي، غير أن بلغنا أن جماعة من السلف ضربوا على أن يلوا القضاء فأبوا، وسمر باب أبي علي بن خيران مدة، ليلي فما ولي، وما ذاك إلا لأنهم يخشون ألا يقيموا فيه الحق لفساد الزمان، وإلا فالقضاء إذا أمكن فيه نصر الحق [ووصوله إلى أهله] من أعظم القربات، ولكن أين ذلك، وهم لا يدخلون في زماننا هذا في القضاء إلا بالسعي الشديد، وبذل المال الكثير، ومذهب كثير من العلماء من الشافعية، والحنفية، وغيرهم أن من يبذل الذهب على القضاء لا تصح أحكامه، ولا يخفى أنه إذا فسق ببذل الذهب لم يكن نافذ الأحكام.