للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المعرفة طريق الخشية والإجلال]

فعلى قدر معرفة الله عز وجل تكون الخشية منه، وعلى قدر الخشية تكون المراقبة، والمبادرة إلى الخيرات، وترك المنهيات، كما في الدعاء (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك) (١).

قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: ١٩٠، ١٩١].

فبينت هذه الآيات أن التفكر في خلق السماوات والأرض قاد هؤلاء الصالحين إلى المعرفة {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}، وأن المعرفة قادتهم إلى الخشية {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.

ونلمح ذلك المعنى في قوله تعالى على لسان سيدنا موسى عليه السلام وهو يخاطب فرعون {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: ١٩]، ففرعون لا يعرف الله عز وجل، لذلك لا يخشاه ولا يحسب له حسابًا، وموسى عليه السلام يُريد أن يعرِّفه به حتى يخشاه فينتهي عما يفعله.

وكذلك فعل نوح عليه السلام مع قومه {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: ١٣ - ١٦].

وعندما سأل موسى ربه: يارب أي عبادك أخشى لك؟ قال: أعلمهم بي (٢).

[كيف نعرف الله؟]

الله عز وجل أخبرنا بأنه {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: ١٠٣].

وأنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: ١١].

وأنه: {لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: ١١٠].

فما السبيل إذن إلى معرفته؟!

نعم لا يعرف الله إلا الله - سبحانه وتعالى - كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" (٣).

ومع ذلك فقد أتاح لنا سبحانه وتعالى جزءا من المعلومات عنه بدرجة تتحملها عقولنا من خلال ما أخبرنا به من أسمائه وصفاته، والتي أودع مظاهرها وآثارها في مخلوقاته، وبقدر التتبع لهذه الآثار وربطها بالأسماء والصفات تكون المعرفة.

فالقاعدة تقول: " من آثارهم تعرفونهم "، فعندما يصف الناس شخصا ما بأنه محسن - مثلًا - فإن هذا الوصف لن يقع موقعه في النفس إلا إذا رأيت آثار إحسانه .. وكلما تتبعت تلك الآثار وشاهدتها بنفسك يزداد يقينك بصحة هذا الوصف .. ولله المثل الأعلى.

فالله عز وجل لا نستطيع أن نراه في الدنيا، ولكنه سبحانه وتعالى خلق هذا الكون كله وجعله يدل عليه، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: ٥٣]. وأخبرنا سبحانه وتعالى بأن له أسماء وصفات أودع آثارها في كونه ومخلوقاته.

إذن فالطريقة السهلة لمعرفة الله عز وجل: أن نتعرف على آثار أسمائه وصفاته، قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: ٢٠، ٢١]. وعلى قدر التتبع والتفكر في هذه الصفات تزداد المعلومات عن الله عز وجل فينعكس ذلك على القلب بزيادة جوانب العبودية فيه.


(١) حديث حسن: أخرجه النسائي (٦/ ١٠٦، رقم ١٠٢٣٤)، والترمذي (٥/ ٥٢٨، رقم ٣٥٠٢)، والحاكم (١/ ٧٠٩، رقم ١٩٣٤)، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم (١٢٦٨).
(٢) إسناده صحيح: أخرجه الدارمي في سننه (١/ ١١٤ برقم ٣٦٢)، وابن المبارك في الزهد، ص (٧٥)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح، وهو منقطع إلى عطاء.
(٣) حديث صحيح: أخرجه مسلم (١/ ٣٥٢، رقم ٤٨٦)، وغيره.

<<  <   >  >>