وكلما توسع العبد في ذكر نعم ربه عليه ازدادا يقينا بأنه لن يستطيع أن يؤدي حقها، وأنه سبحانه وتعالى لو حاسبنا على نعمه وطالبنا بحقه لهلكنا، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عذب» (١).
فلا أمل لدينا إلا في رحمة الله ومغفرته وتجاوزه عن حقه، وعدم محاسبتنا على نعمه علينا ..
[عفو الله أو النار]
من هنا كان القرآن دوما يُذكِّر بهذه الحقيقة، وبأن سعينا مهما بلغ فلن يوجب بمفرده النجاة من النار فضلا عن أن يدخل الجنة، وأن هذه النجاة وهذا الفوز لن يحدث إلا إذا تفضل الله علينا ولم يحاسبنا على نعمه، وتجاوز عن حقه، وعن تقصيرنا في أدائه كما قال تعالى على لسان أحد الناجين من النار: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات: ٥٧].
وليس معنى هذا ترك العمل والاجتهاد، فصاحب الدَين الذي يرى استهتارا من المدين وعدم مبالاته بالسداد، يجعله يُعرض عنه ويغضب منه ولا يُفكر في إسقاط دينه، بخلاف من يراه مجتهدا في السداد - مع عدم قدرته على الوفاء - فإنه قد يتجاوز عنه.
قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: ٥٦].
فالعمل والاجتهاد في فعل الخيرات ما هو إلا وسيلة لنيل الرحمة والمغفرة والتعرض للعفو والتجاوز.
لذلك نجد القرآن يطالبنا بالاجتهاد في العمل للتعرض للرحمة والمغفرة الإلهية والتي إذا تمت للعبد فسيتبعها بمشيئة الله دخول الجنة، فضلا ورحمة منه سبحانه.
قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: ١٣٣].
ويقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: ٢١٨].
[من فوائد النظر في حق الله]
كثرة التفكر والنظر في حق الله ودينه علينا له كثير من الفوائد التي من شأنها أن تعيننا على تحري الصدق والإخلاص في أعمالنا.
فمن هذه الفوائد:
١ - عدم رؤية العمل الصالح أو الاعتماد عليه بل استصغاره، والنظر إليه بعين النقص مهما كان اجتهاد العبد، فالذي يجتهد ويجتهد ثم يُسدد بضعة دراهم من دينه البالغ المليون دينار لن يشعر بأنه قدَّم شيئا يُذكر، فتراه دوما مستصغرا ما يقدمه لدائنه طامعا في عفوه.
٢ - عدم احتقار الآخرين أو الشعور بالأفضلية عليهم، فالكل مَدِين لله عز وجل ولا يسع الجميع سوى عفوه وإلا فالنار مصير من لم يدركه هذا العفو.
فالذي يقدم خمسة دراهم لصاحب الدَّين الكبير لن يشعر بأنه أفضل ممن قدم درهما أو نصف درهم، فالكل مقصِّر، والكل يستحق العقوبة، ولا أمل إلا في السماحة والعفو.
٣ - الخوف الدائم من عدم قبول العمل: فمن الطبيعي ألا يقبل صاحب الدين الكبير سداد جزء يسير منه، فإن قبله فهذا محض فضل وإحسان منه.
لذلك كان الصالحون يجتهدون ويجتهدون ثم يخافون ألا يقبل منهم. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: ٦٠].
٤ - الحذر الشديد من السكون إلى النفس أو الإعجاب بها حتى لا يتعرض العبد لمقت الله ومعاملته بالعدل للا بالإحسان، كما قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: ٨].
٥ - الاجتهاد في نسيان العمل بعد أدائه وعدم التحدث به أمام الآخرين.
(١) متفق عليه: البخاري (٥/ ٢٣٩٤ برقم ٦١٧١)، ومسلم (٤/ ٢٢٠٥، رقم ٢٨٧٦).