للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كان عمر بن الخطاب ينهى وهو يرسل الجيوش عن الإكثار من رواية الحديث لعدم شغل الناس عن القرآن .. فعن قرظة بن كعب قال: خرجنا نريد العراق، فمشى عمر رضي الله عنه معنا إلى صرار فتوضأ، فغسل اثنتين ثم قال: أتدرون لم مشيت معكم؟ قالوا: نعم، نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيت معنا، قال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، امضوا وأنا شريككم، فلما قدم قرظة قالوا: حدثنا، قال: نهانا عمر بن الخطاب (١).

وعن عبد الله بن يسار قال: سمعت عليا رضي الله عنه يخطب ويقول:

«أعزم على كل من كان عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حيث تتبعوا أحاديث علمائهم، وتركوا كتاب ربهم» (٢).

ويعلق الشيخ محمد الغزالي رحمه الله على هذين الخبرين فيقول: فعمر وعلي وغيرهما من الأئمة لا يجحدون السنة، ولكنهم يريدون إعطاء القرآن حظه الأوفر من الحفاوة والإقبال. وذلك هو الترتيب الطبيعي، فلابد من معرفة القانون كله معرفة سليمة قبل الخوض في شروح وتفاصيل لبعض أجزائه، إذ أن هذه الشروح والتفاصيل لا يحتاج إليها كل أحد، وربما شحنت الأذهان فلم تترك بها فراغا للأصول اللازمة والقواعد الهامة (٣).

لقد أدرك الصحابة القيمة العظمى للقرآن وقدرته على التغيير، وأدركوا كذلك أن انشغال الناس بغيره سيشتت الذهن ويصرف الوقت، مما سيؤدي إلى عدم تمكن القرآن من قيادتهم وتغييرهم.

تأمل معي ما قاله الحارث الأعور .. دخلت المسجد فإذا أُناس يخوضون في أحاديث، فدخلت على علي فقلت: ألا ترى أناسا يخوضون في الأحاديث في المسجد؟ فقال: قد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ستكون فتن» قلت: وما المخرج منها؟ قال: «كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم ينته الجن إذ سمعته أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: ١]، وهو الذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به هدي إلى صراط مستقيم» (٤).

[٢ - ومن هذه الوصايا: تأكيدهم المستمر بأن المعنى هو المقصود من التلاوة والعمل هو ثمرته:]

يقول ابن مسعود رضي الله عنه: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن (٥).

ويؤكد هذا المعنى أبو عبد الرحمن السلمي، وهو أحد تلامذة الصحابة فيقول: أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأخر حتى يعلموا ما فيهن من العمل. قال: فتعلمنا العلم والعمل جميعا، وأنه سيرث القرآن من بعدنا قوم قوم يشربونه شرب الماء لا يجاوز هذا، وأشار إلى حنكه (٦).

وفي هذا المعنى يقول عمر بن الخطاب: لا يغرركم من قرأ القرآن، إنما هو كلام نتكلم به، ولكن انظروا من يعمل به (٧).


(١) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (٢/ ٩٩٩، ١٠٠٠).
(٢) المصدر السابق (١/ ٢٧٢).
(٣) فقه السيرة للغزالي ص (٣٧).
(٤) رواه الدارمي في سننه برقم (٣٣٣٣) قال الشيخ الألباني: (ضعيف) انظر حديث رقم: (٧٤) في ضعيف الجامع.
(٥) أخرجه الطبري (١/ ٣٥).
(٦) فضائل القرآن للفريابي (٢٤١).
(٧) اقتضاء العلم للعمل للخطيب البغدادي (٧١).

<<  <   >  >>