هذه الحقيقة عندما تستقر في كيان الإنسان فإن من شأنها أن تُنسيه عمله الصالح، بمعنى أنه لن يظن أن له مكانة عند الله بهذا العمل أو أنه يستحق به دخول الجنة ودرجاتها العلى، بل يعمل العمل ويجتهد فيه ثم يسغفر الله بعد القيام به لشعوره بأن حق الله عليه أعظم مما يفعل وأنه إن لم تتداركه رحمة الله وعفوه فسيهلك، كمن أدان شخصا بمبلغ كبير من المال مثلا مليون دينار، ثم قام هذا الشخص بالاجتهاد في العمل وفي نهاية كل شهر قام بسداد درهم واحد .. ما هو شعور هذا الشخص وهو يقدم الدرهم لدائنه؟! .. هل شعور الفخر والإعجاب بهذا الدرهم، أم أنه سيُنكِّس رأسه وهو يعطيه له، ويشعره بالتقصير الشديد في حقه ويستعطفه ويرجوه أن يسامحه على تقصيره؟! بل يرى أن قبوله له محض فضل منه وإحسان.
هذا لو كان الدَيْن يساوي ذلك فقط، فما بالك بدين الله علينا الذي تعجز قدرات العقل عن إحصائه؟!!
فالله عز وجل له حقان على العبد: حق طاعة أوامره، وحق شكر نعمه.
والمتأمل في القرآن يجد مساحة كبيرة ومعتبرة تتحدث عن حق الله على عباده وبخاصة دَيْن النعم، وتذكرهم ببعض تفاصيل هذا الحق وواجبهم نحوه سبحانه وتعالى.
يقول تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: ٥٣].
[جوانب النعم]
ويعدد لنا القرآن بعضا من جوانب نعم الله علينا لنستشعر حجم الدَّين الذي في رقبتنا، مثل:
- نعمة الإيجاد. قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: ٧٨].
- ونعمة الإمداد: مثل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: ٣٠].
- ونعمة التسخير. مثل قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: ١٣].
- ونعمة الحفظ. مثل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء: ٤٢].
- ونعمة الهداية. مثل قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل: ١٢]، وقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: ٩].
- ونعمة التوفيق. مثل قوله تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود: ٨٨].
- ونعمة الثبات: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: ٨٣].
- ونعمة العصمة من الفجور: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: ٢١].
- ونعمة العفو: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: ١٤].
- ونعمة الأمن والستر، ونعمة سبق الفضل، والعافية، والإمهال ..
والقرآن بعد أن يُعدِّد لنا بعضا من جوانب النعم الإلهية على العباد يُطالبنا بشكر هذه النعم، قال تعالى: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: ١٤٤].
وشكر النعم يبدأ بمعرفة حق الله ودَينه المستحق علينا. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [فاطر: ٣].