للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولقد أتى رجل أبا الدرداء فقال: إن ابني جمع القرآن، فقال: اللهم غفرا، إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع (١).

[٤ - ومن وصاياهم: الإيمان قبل القرآن:]

والمقصد من هذه الوصية غرس قواعد الإيمان في القلب وإقامة صرحه وتمكنه من الإرادة قبل حفظ حروف القرآن.

يقول جندب بن عبد الله: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاير، فتعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا (٢).

ويؤكد على هذا المعنى عبد الله بن عمر رضي الله عنه بقوله: لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، فتتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها وأمرها وزجرها، وما ينبغي أن يقف عليه منها، ثم رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري أمره ولا زجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده فينثره نثر الدقل (٣).

فإن كنت في شك من هذا فتأمل معي هذا الخبر: كتب إلى عمر بن الخطاب بعض عماله في العراق يخبرونه أن رجالا قد جمعوا كتاب الله تعالى، فكتب لهم عمر أن افرض لهم في الديوان، فكثر من يطلب القرآن، فكُتب إليه من قابل أنه قد جمع القرآن سبعمائة رجل. فقال عمر: «إني لأخشى أن يُسرعوا في القرآن قبل أن يتفقهوا في الدين، فكتب ألا يُُعطيهم شيئا» (٤).

ويُطلق الحسن البصري ربيب الصحابة وأحد كبار التابعين تحذيره من حفظ حروف القرآن فقط فيقول: إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله ولم يأتوا الأمر من أوله. قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: ٢٩]، وما تدبر آياته إلا اتباعه لعلمه. أما - والله - ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن كله ما أسقطت منه حرفا .. قد والله أسقطه كله، ما رُئي القرآن له في خلق ولا عمل، وإن أحدهم ليقول: والله إني لأقرأ السورة في نفس. ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الورعة .. متى كان القرآء يقولون مثل هذا؟ لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء (٥).

فالحسن البصري يحذر من عدم أخذ أمر القرآن من أوله، وأوله كما مر علينا هو تعلم ما فيه من إيمان وعمل، ليأتي بعد ذلك الحفظ على قاعدة سليمة فيزداد به القلب إيمانا.

[٥ - ومن وصاياهم: ضرورة تدبر القرآن وفهمه وتحريك القلب به:]

عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة وإني أقرأ القرآن في ثلاث، فقال: لأن أقرأ البقرة في ليلة فأدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ كما تقول (٦).

وهكذا كان يفعل ابن عباس رضي الله عنهما ... يقول ابن أبي مليكة: سافرت مع ابن عباس - رضي الله عنهما - من مكة إلى المدينة فكان يقوم نصف الليل فيقرأ القرآن حرفا حرفا ثم يبكي حتى نسمع له نشيجا (٧).

وعن ابن أبي ذئب - رحمه الله - عن صالح قال: كنت جارا لابن عباس رضي الله عنهما وكان يتهجد من الليل فيقرأ الآية ثم يسكت قدر ما حدثتك، وذاك طويل، ثم يقرأ. قلت: لأي شيء فعل ذلك؟ قال: من أجل التأويل يُفكر فيه (٨).

فبمثل ما كان يقرأ ابن عباس كانوا يوصون ...


(١) فتح الباري، كتاب فضائل القرآن (٩/ ٦٢)، وفضائل القرآن لأبي عبيد (١٣٣).
(٢) رواه ابن ماجه بإسناد حسن، وحزاير جمع حزير، وهو الشاب الممتلئ نشاطا وقوة وجلدا.
(٣) أخرجه الحاكم وصححه على شرط الشيخين، والدقل: هو ردئ التمر.
(٤) الحوادث والبدع للطرطوشي (٢٠٦، ٢٠٧).
(٥) المصدر السابق (٢٠٩، ٢١٠).
(٦) فضائل القرآن لأبي عبيد (١٥٧).
(٧) مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر (١٣١).
(٨) المصدر السابق (١٤٩).

<<  <   >  >>