ويضرب القرآن مثلا لهذه الطريقة في العلاج، يقول تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: ١٧].
[القرآن وحياة القلوب (الولادة الثانية)]
بالمداومة على قراءة القرآن ومع ازدياد فترات تجاوب القلب مع العقل: يزداد الإيمان شيئا فشيئا، ويحل محل الهوى في القلب، إلى أن تأتي لحظة من أجمل لحظات الحياة وهي تحرر القلب بالكامل من الهوى وولادته من جديد: قلبا حيا، يقظا، نابضا، يتحرك ويخشع، ويجده صاحبه معه عندما يريده .. هذه اللحظة السعيدة سماها العلماء «الولادة الثانية».
يقول ابن القيم: «فللروح في هذا العالم نشأتان: إحداهما النشأة الطبيعية المشتركة، والثانية نشأة قلبية روحانية، يولد بها قلبه وينفصل عن مشيمة طبعه كما وُلد بدنه وانفصل عن مشيمة البطن، ومن لم يصدق هذا فليضرب عنه صفحا وليشتغل بغيره.
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد: أن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام قال للحواريين: «إنكم لن تلجوا ملكوت السماوات والأرض حتى تولدوا مرتين» (١).
وعندما تتم هذه الولادة، ويُولد القلب الحي، عندئذ تبدأ رحلته المباركة في السير إلى الله للوصول إلى معرفته في الدنيا والقرب منه في الآخرة.
[القرآن والسير إلى الله]
كما أن لدى القرآن القدرة على تغيير سلوك صاحبه وذلك بالعمل المستمر على زيادة الإيمان في قلبه وطرد الهوى منه، فإن لديه القدرة كذلك على السير به إلى الله والاقتراب الدائم منه حتى يصل العبد إلى درجة الصديقية، وهي الدرجة التي تلي الأنبياء في القرب من الله عز وجل وذلك من خلال ما يعرف بـ «أعمال القلوب».
[أعمال القلوب]
أعمال القلوب هي العبادات التي ينبغي أن يمارسها القلب عند تعرضه لأحوال معينة. فعندما يتوجه البدن بطاعة من الطاعات، كالصلاة أو الانفاق ينبغي أن يصاحب ذلك عبادة قلبية تُسمى الإخلاص لله عز وجل، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: ٥].
والعبودية التي ينبغي أن يكون فيها القلب عند ورود النعم عليه: الشكر لله عز وجل، كما قال تعالى: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: ١٤٤].
والصبر هو عبودية القلب التي ينبغي أن تلازمه عند ورود المصائب أو الابتلاءات عليه، كقوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} [الحج: ٣٥].
والخشوع والخضوع والتواضع هي عبوديته عند ذكره لله عز وجل وتذكَّر عظمته وكبريائه مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: ٢].
وعبادة التوكل على الله والاستعانة به ينبغي أن تصاحب القلب قبل القيام بأي عمل: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: ١٥٩].
والتقوى هي الحال التي ينبغي أن يكون عليها القلب بعد القيام بأي طاعة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: ١٨٣].
(١) مدارج السالكين (٣/ ١٤٦).