مرفوع آخر فقد ثبت أنه ليس في القصة ما يشهد له قَطْعًا، وغاية ما تدل عليه هذه القصة أن كُلاًّ منهما استدل بحديث يرى أنه الصالح للاحتجاج لرجحانه في نظره من ناحية سنده أو متنه غير ذلك من وجوه الترجيح وهو ما ذكرته آنِفًا، واختلاف الأنظار المستند إلى الاجتهاد من طبيعة التفكير الحر النزيه وما أكثر هذا الاختلاف في تاريخ التفكير الإسلامي وهو حسنة من محاسن حرِيَّةَ الرأي في الإسلام.
وفي [ص ٢٥٤] ذكر نُقُولاً يريد من ذكرها إيهام القارئ أن الإمام أبا حنيفة كان يرد بعض الأحاديث، وأنه كان مَنْقُومًا عليه بسبب ذلك، ولم تضره هذه النقمة فما زال هو الإمام الأعظم عند المسلمين.
وأحب أن أقول للمؤلف ومن على شاكلته:
[١] إنه ينبغي للباحث أن لا يكون كحاطب ليل ينقل كل ما تقع يده عليه، ولو كان فيه مصرعه، وينبغي أن يكون كالصيرفي الناقد البصير، والإمام أبو حنيفة كثر شانئوه وحاسدوه لفضله وفقهه ومنزلته، وهؤلاء افتروا عليه ما شاء لهم هواهم أن يفتروا، ونسبوا إلى كبار الأئمة في الطعن فيه ما هم براء منه وما هو بريء منه، وقد أشار الإمام ابن عبد البر في " الانتقاء " إلى شيء من هذا فقال [ص ١٤٩]: «وَنَذْكُرُ فِي هَذَا الكِتَابِ مِنْ ذَمِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ مَا يَقِفُ بِهِ النَّاظِرُ فِيهِ عَلَى حَالِهِ، عَصَمَنَا اللَّهُ وَكَفَانَا شَرَّ الحَاسِدِينَ، آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ» وكان هذا من ابن عبد البر بمثابة الاعتذار عما أورده عن بعضهم في ذمه وتنبيه القارئ أن لا يغتر بهذه الأقوال لأن الظاهر أنها مختلقة مكذوبة.
[٢] ما ذكره عن الإمام أبي حنيفة من رَدِّهِ لبعض الأحاديث الآحادية وعدم اهتمامه بها قد قدمت تحقيق القول فيه، وأن الإمام كغيره من الأئمة يأخذ بما ثبت وصح عنده وللأئمة في هذا معايير وموازين دقيقة قد لا تصل إليها بعض الأفهام القاصرة.
ثم إن ما ذكروه معارض بما رُوِيَ عن الإمام أبي حنيفة من وقوفه