وقد شاء الله رحمة بعباده وتخفيفًا عليهم أن يكون الوحي بعضه مَتْلُوًّا محفوظًا يتعبد بتلاوته وهو القرآن، وبعضه غير مَتْلَوٍّ ولا يتعبد بلفظه وهي السُنَّةُ، وقد بَلَّغَ النَّبِيُّ هذا وذاك وأمر المسلمين بحفظ الأول البتة ورغبهم في حفظ الثاني وتأديته كما سمع فإن تعذر اللفظ فبالمعنى، وقد وَفَتْ الأُمَّةُ بما عهد إليها واستحفظت عليه وأدته وبلغته غاية البلاغ.
من ديدن أَبِي رَيَّةَ تحميل الكلام ما لم يحتمل، وتحريفه لمعاني الكلام كي يخلص إلى ما يوافق هواه فمن ذلك ما ذكره في [ص ٢٥٢] حديث نقل كلام الإمام مالك في عدم أخذه ببعض الأحاديث واستشكاله لها لمخالفتها للقرآن أو لقواعد الشريعة ولا حامل له على هذا التشكيك في الأحاديث وإيهام من لا يعلم أن الأئمة الكبار يردونها، ولا يأخذون بها، وحاشا الإمام مالك أن يرد حديثًا صح عنده إِلاَّ بوجهة صحيحة أَوْ يُهَوِّنَ من شأن الأحاديث كما قصد المؤلف، وبعض الأئمة قد لا يعمل بالحديث لأنه لم يبلغه أو بلغه ولكن لم يصح عنده أو صح عنده ولكنه يرى فيه أنه منسوخ أو مقيد أو مخصص بدليل آخر أو لمعارضته لغيره من الأدلة مع رجحانها في نظره فيترك العمل به أو مع عدم الرجحان فيتوقف فيه، وأيا كان الأمر فلا يصلح ما ذكره أن يتخذ منه سَبَبًا للتشكيك في الأحاديث والتقليل من شأنها.
وفي [ص ٢٥٣] ذكر مناظرة كانت بين الأوزاعي وأبي حنيفة في رفع الأيدي عند الركوع والرفع منه، وأن الأوزاعي استدل بحديث على الرفع وأبا حنيفة استدل بحديث آخر على عدمه وقد فتشت كثيرًا عن مناسبة هذه القصة للموضوع الذي كان يتكلم فيه فلم تظهر لي المناسبة، ولو أن أبا حنيفة رَدَّ حديث الأوزاعي المرفوع بكلام صحابي أو تابعي أو بالرأي لتم له ما يريد أن يثبته من رد الأحاديث المرفوعة بالنقل عن غير النَّبِيِّ أو بالعقل، أما والإمام أبو حنيفة قد عارض حديث الأوزاعي بحديث