للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالمصدّق بيوم الدين؛ يعمل وهو ناظر لميزان السماء لا لميزان الأرض، ولحساب الآخرة لا لحساب الدنيا، له سلوك فريد في الحياة، نرى فيه الاستقامة، وسعة التصور، وقوة الإيمان، والثبات في الشدائد، والصبر على المصائب، ابتغاء للأجر والثواب، فهو يعلم أن ما عند الله خير وأبقى.

روى الإمام مسلم عن صهيب -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء، شکر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء، صبر، فكان خيراً له .. » (١).

هذا الشعور هو من آثار الإيمان بالله واليوم الآخر، والإحساس بثقل التّبعة، وعظم الأمانة، التي تحمّلها الإنسان وأشفقت منها السموات والأرض والجبال، إذ يعلم أن كل كبيرة وصغيرة مسؤول عنها، ومحاسب بها، ومجازي عليها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:٣٠]، وقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (٤٩)} [الكهف:٤٩]

وأما الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر وما فيه من حساب وجزاء، فهو يحاول جاهداً أن يحقق مآربه في الحياة الدنيا، لاهثاً وراء متعها، متكالباً على جمعها، مناعاً للخير أن يصل الناس عن طريقه، قد جعل الدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه، فهو يقيس الأمور بمنفعته الخاصة، لا يهمه غيره، ولا يلتفت إلى بني جنسه، إلا في حدود ما يحقق النفع له في هذه الحياة القصيرة المحدودة، يتحرك وحدوده هي الأرض وحدود هذا العمر، ومن ثم يتغير حسابه، وتختلف نتائج موازينه، وينتهي إلى نتائج خاطئة، لأنه مستبعد للبعث {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (٥) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (٦)} [سورة القيامة:٥ - ٦].

وتجد هذا الصنف من الناس من أشد الناس حرصاً على الحياة، لأنهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت، كما قال تعالى في وصف المشركين من اليهود وغيرهم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٩٦)} [البقرة:٩٦].


(١) صحيح مسلم، كتاب الزهد، باب في أحاديث متفرقة (١٨/ ١٢٥ - مع شرح النووي).

<<  <   >  >>