[الآيات الدالة على وجود الله ومعرفته]
قال: (ومن آياته) ، (من) هنا للتبعيض، وذكر المؤلف رحمه الله الآيات الظاهرة البينة التي يدركها كل أحد، والتي تكرر لفت الأنظار إليها في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَمِنْ مخلوقاته السموات السَّبْعُ، وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ، وَمَنْ فِيهِنَّ، وَمَا بَيْنَهُمَا، كل هذه آيات دالةٌ على أن الرب هو الله جل وعلا، وأنه الرب لكل شيءٍ سبحانه وتعالى) .
ثمّ ذكر الدليل على الآيات فقال: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:٣٧] ) فهذه الشمس الدوارة، وهذا القمر السيّار، والليل والنهار المتعاقبان، كلها دالة على ربوبية الله عز وجل لخلقه.
قال تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} [فصلت:٣٧] فنهى عن صرف العبادة لغيره؛ لأن السجود عبادة، والعبادة لا يجوز صرفها لغيره من المخلوقات، ولو كانت من المخلوقات العظيمة الباهرة، ولذلك قال: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت:٣٧] ، فأمر بالسجود لله الذي خلق هذه الآيات العظيمة وحده، فهو المستحق للسجود والعبادة، وذِكْرُ السجود هنا لا لحصره فيه، بل يشمل جميع ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، فليس المنهي عنه السجود فقط، ولا المأمور به في حق الله السجود فقط، بل المنهي عنه صرف كل نوع من أنواع العبادة من السجود وغيره، قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:٣٧] ، أي: توحدون، فإن كنتم قد قمتم بحقه في توحيده وعبادته فإن من لازم ذلك أن تفردوه بالسجود له سبحانه وتعالى دون غيره، والمقصود من سياق هذه الآية بيان أن الشمس والقمر والليل والنهار من آيات الله سبحانه وتعالى الدالة على عِظَمِ الرب، وأنه سبحانه وتعالى رب كل شيء.
قال: [وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السموات وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:٥٤]] .
فذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية خلقه للسماوات والأرض، وهما من المخلوقات العظيمة التي تردد ذكرهما في كتاب الله عز وجل، وذكر استواءه على العرش، والاستواء على العرش صفة من صفاته التي يثبتها أهل السنة والجماعة، وينكرها المكذبون للرسل المخالفون لهم الممثلون المشبهون المقصرون في حق الله سبحانه وتعالى؛ فإن تعطيلهم صفة الاستواء فرع عن تمثيلهم الاستواء الثابت لله عز وجل بالاستواء المعلوم من المخلوق.
والعجيب أن الاستواء مع تكرر ذكره في كتاب الله عز وجل إلا أن الفرق الضالة مطبقةٌ على إنكاره، إما إنكاراً كلياً كالجهمية، وإما إنكاراً بالتأويل الباطل، حتى إنه جاء عن جهم بن صفوان أنه قال: (وددت أن أحك من المصحف: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] ) لضيق صدره بما تضمنته هذه الآيات من إثبات صفة الاستواء لله جل وعلا، وإنما ذكر الله عز وجل استواءه لبيان عظيم فعله سبحانه وتعالى، وعظيم ما يتصف به، قال تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف:٥٤] أي: يزيل الليل بالنهار، والنهار بالليل.
وهذه الإزالة لا تحتاج إلى وقت، ولذلك قال: {يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} [الأعراف:٥٤] أي: هذا الغشيان -زوال الليل بالنهار، وزوال النهار بالليل- أمر يحصل بسرعة، ولذلك لا نجد توقفاً في الليل أو النهار، بل هما متعاقبان، يكور الله الليل على النهار والنهار على الليل، وهذا دال على عظيم صنع الله عز وجل وقدرته سبحانه وتعالى, قال سبحانه: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} (مسخرات) أي: مذلّلاتٍ بأمره وتدبيره سبحانه وتعالى، فسير القمر والنجوم والشمس دليل على عظمة المدبر لهذه الأجرام العظيمة؛ حيث إنه لا يختل سيرها ولا يتأخر: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:٤٠] ، وهذا يدل دلالة واضحة على عظم إتقان الله عز وجل لخلقه، ولذلك الآن -وقبل الآن- يستطيع أصحاب الحساب أن يخبروا بخسوف القمر وكسوف الشمس بالدقيقة والثانية، ومراحل الخسوف ودرجاته ومتى ينجلي، وتجد أن الأمر مطابق مطابقة تامة، وهذا يدلك على العظيم المدبر المسير المسخر لهذه الكواكب، حيث لا يتأخر سيرها ثانية واحدة، فهذه آيات عظيمة تدل على عظمة من خلقها ودبرها وملكها سبحانه وتعالى.
ثم بعد أن ذكر هذه الآيات العظيمة قال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (ألا له) أي: لله جل وعلا، (الخلق) المراد به كل أمر قدري كوني، فجميع الحوادث الكونية القدرية ترجع إلى قوله: (له الْخَلْقُ) وجميع أوامره الشرعية ترجع إلى قوله: (وَالأَمْرُ) وبينهما فرق، فأوامره الخلقية غير أوامره الشرعية، فأمره سبحانه وتعالى لنا بالصلاة أمر شرعي، وأمره سبحانه وتعالى الشمس في سيرها بأن تغرب عن هذا البلد وتشرق على البلد الآخر أمر كوني.
والفرق بينهما: أن أمره الخلقي لا يمكن أن يتخلف، وأما أمره الشرعي الديني فقد لا يتحقق، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى فيما يتعلق بأوامره الشرعية: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:١٣] فهذا هو الفرق بين الأمر والخلق.
ثمّ قال تعالى: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:٥٤] و (تبارك) يفسرها كثير من أهل التفسير بقولهم: تعالى، وهو من معانيها، لكن تبارك أشمل من ذلك، فالمراد بـ (تبارك) أي: كثر خيره وبركته، ومن خيره وبركته سبحانه وتعالى اتصافه بصفات الكمال، وتنزهه جل وعلا عن صفات النقص.
{تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي: المسخر المدبر لهذه الآيات العظيمة الخالق لها.