[العموم والخصوص بين الإسلام والإيمان]
هذه المرتبة هي المرتبة الثانية، وقد فرغ الشيخ رحمه الله من المرتبة الأولى وهي مرتبة الإسلام، وتلخص لنا أن الإسلام هو الطاعات الظاهرة، وهذا باعتبار ذكر الإسلام مع الإيمان والإحسان؛ لأن تعريف الإيمان والإسلام والإحسان يختلف فيما إذا اقترن شيء منها بالآخر، وفيما إذا جاء كلٌ منها على انفراد، ففي حال الانفراد يكون معنى الإسلام شاملاً كلاً من الإيمان والإحسان، وإذا جاء الإيمان منفرداً كان الإيمان شاملاً للإحسان والإسلام، وكذلك الإحسان إذا جاء منفرداً شمل الإسلام والإيمان، وانتبه لهذا التفريق.
أما إذا اجتمعت كما هو الحال في حديث جبريل فإن الإسلام يختص بالأعمال الظاهرة قوليةً أو فعليةً، والإيمان يختص بالأعمال الباطنة، والإحسان هو الكمال والغاية في هذين الأمرين أعمال الظاهر، وأعمال الباطن.
فالمؤلف رحمه الله تعالى قال: [المرتبة الثانية الإيمان] ، ثم بين الإيمان وعرّفه بقوله: [وهو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قَوْلُ (لا اله إِلا اللهُ) ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ] ، وهذا تعريف للإيمان بنص نبوي، وفي هذا فائدة ولفتة مهمة لطالب العلم، وهي أن الاصطلاحات الشرعية كالإسلام والإيمان والإحسان والبر والتقوى والصلاة والزكاة وغير ذلك من ألفاظ الشريعة إنما يستقى معناها ويستفاد مفهومها من الشريعة لا من لسان العرب، وهذه فائدة تهمك وتفيدك في تعريف الإيمان، فإن أقواماً عرّفوا الإيمان بأنه مجرد التصديق، وقيل لهم: من أين لكم هذا؟ قالوا: أفادتنا اللغة بهذا.
قلنا لهم: إن الإيمان أمره كبير، وشأنه خطير، به تحصل النجاة من النار والفوز بالجنة، وهل يعقل أن مثل هذا يتركه الله سبحانه وتعالى، ويتركه رسوله صلى الله عليه وسلم دون بيان أو توضيح؟ الجواب: لا يمكن تركه بدون بيان وإيضاح، ولذلك وجب الرجوع في تعريف الإيمان والإسلام والإحسان وفي غيرها من الاصطلاحات الشرعية إلى بيان الشارع، وإلى ألفاظه وبيانه وتوضيحه، فإنه الغاية والمنتهى في بيان حقائق هذه الأمور، فالشيخ رحمه الله سلك هذا المنهج، فبين الإيمان بقول النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أظن أحداً يقرأ هذا الحديث إلاّ ويتضح له الإيمان غاية الوضوح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الإيمان بضع وسبعون شعبة، ثم ضرب مثلاً لكل شعبةٍ من شعبه، فهذه المذكورات في هذا الحديث وهي ثلاثة أمور ترجع إليها بقية الشعب، فأعلاها قول: (لا إله إلاّ الله) هذا أعلى شعب الإيمان، وهذا يفيد أن الأقوال تدخل في مسمى الإيمان، فالقول من الإيمان، ولذلك جعل أعلى مراتب الإيمان قولاً، وهو قول: (لا إله إلاّ الله) ، ثم قال: [والحياء شعبة من الإيمان] ، والحياء عمل قلبي أصله في القلب، وقد تظهر ثماره في الجوارح والسلوك، لكن أصله في قلب الإنسان، وبهذا نعرف أن جميع الأعمال القلبية تدخل في مسمى الإيمان.
وثالث ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من شعب الإيمان في هذا الحديث (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) ، وإماطته: إزالته عن الطريق المسلوك.
سواءٌ أكان طريق مشاةٍ، أم طريق سياراتٍ، أم طريق دواب، فكل ما استطرقه الناس ومشوا فيه بأرجلهم أو بدوابهم فإنه يدخل في قوله: (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) ، وإماطة الأذى من عمل الجوارح، وبه نعرف أن من مسمى الإيمان عمل الجوارح، وأن من أخرج الأعمال عن مسمى الإيمان فقد خالف ما أجمع عليه السلف، وما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة.
فهمنا من هذا الحديث أن الإيمان يكون في القلب، ويكون في اللّسان، ويكون في الجوارح، واعلم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأعلاها قول لا إله إلاّ الله) ليس المراد مجرد القول الخالي عن تدبر ما تضمنته هذه الكلمة من العمل، فالحقيقة أن قوله: (فأعلاها قول لا إله إلاّ الله) يشمل القول وعمل القلب؛ لأن القول هو قول القلب واللسان، وقول القلب يكون بتصديقه وإخلاصه، وقول اللسان يكون بنطقه وتلفّظه.
إذاً فهمنا الآن ما هو الإيمان، وأنه قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، وعلى هذا تواطأت كلمات السلف، فمهما اختلف لفظها وتنوع تعبيرها فإنها ترجع إلى أن الإيمان قول وعمل.
قوله: [والإيمان بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فَأَعْلاهَا قَوْلُ: لا اله إِلا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، والحياء شعبة من الإيمان] هل هذا تعريف الإيمان إذا قرن به الإسلام؟ الجواب: لا؛ لأننا ذكرنا أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة إذا اقترن بالإيمان، وأن الإيمان يكون عمل القلب، والحديث تضمن قول اللسان وعمل الجوارح والقلب.
ففهمنا من هذا أن المؤلف رحمه الله بدأ بيان هذه المرتبة بالبيان العام الذي لا يكون مع الإسلام والإحسان.
أما الإيمان الذي يقصد ويراد عند ذكر الإسلام -أي: عند اقترانه بذكر الإسلام- فهو ما قاله رحمه الله في قوله: [وأركانه ستة، وهي أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخر، وبالقدر خيره وشره] ، فهذه كلها أعمال قلبية.
ولذلك سماها شيخ الإسلام رحمه الله: (عقود القلب) ، وسماها (حقائق الإيمان) ، فعقود القلب وحقائق الإيمان كلها من الأعمال القلبية، فإذا قيل لك: ما الإيمان؟ فإن أردتَ أن تعرِّفه تعريفاً عاماً دون اقترانٍ بذكر الإسلام فقل: ما ذكره المؤلف رحمه الله أولاً: بضع وسبعون شعبة، أعلاها قَوْلُ: (لا اله إِلا اللهُ) ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ.
وإذا جاء ذكر الإيمان والإسلام في سياقٍ واحدٍ كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:٣٥] حيث ذكر الأمرين: الإسلام والإيمان فالمسلمون في قوله: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ) هم الذين أتوا بالأعمال الظاهرة، والمؤمنون في قوله: (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) هم الذين أتوا بالأعمال الباطنة، وتنبه إلى هذا الفرق.
فقول المؤلف رحمه الله: [وأركانه ستة] هذا باعتباره مع الإسلام، فلو أن شخصاً أتاك وقال لك: عرِّف الإيمان فقلت: الإيمان أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخر، وبالقدر خيره وشره إذا لم يسبق سؤال عن الإسلام فإنك لا تكون قد أوفيت الإيمان ببيان كافٍ؛ لأنه بقيت الصلاة، والصيام، والحج لم يأتِ ذكر لواحدٍ منها، فتنبه لهذا، ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟) ، فسره بقوله: (أن تشهدوا ألا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتعطوا الخمس من المغنم) ، فعرَّف الإيمان بالإسلام؛ لأنه لم يأتِ سؤال عن الإسلام هنا، فكان الإسلام هو الإيمان، وهكذا حيث ذكر الإيمان أو الإسلام مستقلاً؛ فإنه لابد في البيان أن تبينه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً يشمل القول والعمل والاعتقاد، أما إذا سئلت عن الإسلام كما هو الحال في حديث جبريل، ثم جاءك السؤال عن الإيمان ففي هذه الحال يكون الإسلام متعلقاً بالأعمال الظاهرة، ويكون الإيمان متعلقاً بالأعمال الباطنة.