[مقاما مرتبة الإحسان]
قوله رحمه الله: [ركن واحد] أي: ليس فيه تعدد.
ولكن ركن الإحسان له مقامان: قال رحمه الله: [وهو أن تعبد الله كأنك تراه] هذا هو المقام الأول، وهكذا جاء بيانه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، (فإن لم تكن تراه) هذا هو المقام الثاني، (فإنه يراك) ، وانظر كيف بدأ بأعلى ما يكون من الإحسان، وهو أن يعبد العبد ربه سبحانه وتعالى كأنه يراه، يعني: وحاله حال الذي يعبد الله وهو يشاهده وينظر إليه، وكيف تكون الحال إذا كان العبد في عباداته، وفي ذهابه وإيابه، وفي معاملاته وجميع شئونه يتصرف وهو كالناظر إلى رب السماوات والأرض فوق سماواته مستوٍ على عرشه، يراه ويراقبه ويطلع عليه؟ تكون حاله في أعلى درجات الإيمان، وأعلى درجات الدين وهي درجة الإحسان، بل أعلى المقامين في الإحسان، وهو أن يعبد العبد ربه كأنه يراه، فهذا المقام كبير وشأنه عظيم، ويحتاج إلى استحضار تام وشهود متواصل، وأن يعلم العبد أنه لا تخفى على الله منه خافية، ويحتاج إلى زيادة العناية بمطالعة ما ذكره الله عن نفسه من الأسماء والصفات؛ فإن القلب إذا توالى عليه ما أخبر الله به عن نفسه، وما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم عن ربه قوي قلبه، وأصبح العلم كالمشاهدة، أي: يكون كالذي يشاهد ربه بعينه في تصرفه، وفي عمله، وفي قيامه وقعوده وخروجه، وفي عبادته، وهذا المعنى أكثر الناس يغفلون عنه.
المقام الثاني -وهو منزلة دون المنزلة الأولى- (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، وهو استحضار مراقبة الله عز وجل واطلاعه سبحانه وتعالى عليك يا عبد الله، واعلم أن اطلاع الله ونظره ورؤيته وعلمه لا يقتصر على ظاهر حالك، بل الظاهر والباطن عند الله سواء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم) ، فنظر الله عز وجل لا يقتصر على حال الإنسان الظاهرة، بل يشمل الظاهر والباطن.
ثم ذكر رحمه الله الدليل على هذه المرتبة فقال: [وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:١٢٨]] ، فأثبت الإحسان في قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) وهذا يشمل درجة الإحسان ومقامي الإحسان، المقام الأول: أن تعبد الله كأنك تراه.
والمقام الثاني: فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:٢١٧-٢٢٠] فيه دليل على المقام الثاني، وهو استحضار رؤية الله عز وجل للعبد، فالله عز وجل يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتوكل عليه فيقول: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيم} [الشعراء:٢١٧] ، وانظر كيف ذكر هذين الوصفين في باب التوكل، (العزيز) الذي يمنعك، و (الرحيم) الذي يوصل إليك البر والإحسان، وبهما يحصل للخائف والقَلِق مقصوده، وهو الأمن وسكون النفس من الخوف، ولا يكون فيها نظر إلى غير الموصوف بهذين الوصفين؛ لأن الذي يطلب أمراً ويسعى في تحقيقه دفعاً أو جلباً إذا علم أنه يستند ويعتمد على من يمنعه ومن يوصل إليه الخير فإنه لا يكون في قلبه نظر إلى غير من يتصف بهذين الوصفين، وهما العزّة والرحمة، وهذا هو السر في ذكر هذين الاسمين في مقام التوكل.
{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء:٢١٨] ، وهذا فيه إثبات رؤية الله عز وجل لعباده، (حين تقوم) أي: في صلاتك وعبادتك، {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:٢١٩] أي: تغير أحوالك في العبادة من قيام وركوع وسجود، وهذا فيه حامل للعابد أن يحسن العبادة، فأنت إذا وقفت في صف الصلاة وأردت الدخول فيها فاستحضر هذا الأمر، أن الله جل وعلا يراك، وستجد في هذا الاستحضار أثراً في إحسان العبادة وتجويدها وإصلاحها والمبالغة في إحسان العمل، قال تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:٢١٩-٢٢٠] ، هذا فيه إثبات سمعه سبحانه وتعالى، وفيه إثبات علمه جل وعلا، وليس السمع كالعلم، فالعلم أشمل وأوسع، فالله يسمع مقالك ويعلم بجميع أحوالك، ما تتلفظ به وما لا تتلفظ به.
ثم قال: [وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس:٦١]] .
هذه الآية ذكر الله فيها عز وجل أموراً خاطب فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: ما تكون في حالٍ من الأحوال، (وَمَا تتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) الضمير في قوله: (مِنْهُ) إما أن يعود على (شأنٍ) ، يعني: وما تتلو من شأنٍ من القرآن، فيكون المعنى: وما تتلو من شأنٍ من شئونك.
فـ (من) هنا للسببية، يعني: لسبب من الأسباب وحالٍ من أحوالك ما تتلو منه من قرآنٍ إلاّ والله عز وجل عالم به كما سيأتي.
وقيل: إن الضمير في قوله: (مِنْهُ) عائد إلى القرآن نفسه، فيكون المعنى: وما تتلو من قرآنٍ.
وهذا المعنى هو الذي حققه بعض المحققين من المفسرين.
قال: (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) ، وهذا يشمل عمل القلب والجوارح، وتدخل الأقوال في ذلك؛ لأنها نوع عمل، (إلاَّّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) ، وهذا هو الشاهد من الآية، وهو إثبات شهود الله عز وجل على أحوال العبد، وأنه يراه ومطلع عليه سبحانه وتعالى لا تخفى عليه من شئون العبد خافية، قال: (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) يعني: إذ تدخلون وتشرعون وتقبلون فيه، يعني: في هذه الأعمال التي قال عنها: (وَما تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) ، وهذا فيه تمام شهود الله عز وجل واطلاعه على حال العبد، وهو دليل على المقام الثاني من مقامات الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.