للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بعثة النبي صلى الله عليه وسلم]

قال: [نُبئ بـ (اقرأ) ] أي: حصلت له النبوة بسورة (اقرأ) ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم حببت إليه الخلوة، فكان يخلو في غار حراء، فجاءه جبريل وهو في غار حراء، وقال له: (اقرأ قال: ما أنا بقارئ.

قال: اقرأ.

قال: ما أنا بقارئ.

قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:١-٥] ) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنا بقارئ) ليس رفضاً للقراءة أو رداً لها، إنما هو بيان لحاله، وأنه لا يحسن القراءة صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه أميٌ لا يقرأ ولا يكتب، كما قال تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ} [الشورى:٥٢] ، فما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف الكتاب قراءةً ولا كتابةً، كما قال سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:٤٨] ، ثم نبئ بـ (اقْرَأْ) ، وهذه السورة فيها أن مفتاح النبوة القراءة، ومفتاح العلم القراءة، ولذلك جاء الأمر بالقراءة لتحصل الخيرات، ولذلك حصل للنبي صلى الله عليه وسلم من الخيرات أنه كان مبدؤه وافتتاحه بأمره بالقراءة، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} .

ثم قال: [وأرسل بالمدثر] أي: السورة التي نزلت، وسميت بهذا الاسم لأن الله عز وجل ناداه بهذا الوصف، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى جبريل بين السماء والأرض على الهيئة التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح عظم الأمر عليه، وذهب ترجف بوادره صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فقال لهم: دثروني دثروني.

من شدة ما وجد من الفزع، فأتاه الخطاب في هذه السورة، وفيها قوله تعالى: {يا أيها المدثر} [المدثر:١] ، وفيها بعثته وأمره صلى الله عليه وسلم بالرسالة، أما (اقرأ) فلم يأمره الله فيها بالتبليغ ولا أرسله، إنما أمره بالقراءة لنفسه.

قال: (وَبَلَدُهُ مَكَّةُ، بَعَثَهُ اللهُ بِالنِّذَارَةِ عَنِ الشِّرْكِ) أي: بالإنذار عن الشرك الأكبر والأصغر، الدقيق والجليل، الظاهر والخفي؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من الشرك كله، بل حذر منه ومن أسبابه المفضية والموصلة إليه، ولذلك تميزت هذه الشريعة بأنها سدت كل الطرق الموصلة إلى الشرك.

قال: (ويدعو إلى التوحيد) أي: يدعو الناس إلى عبادة الله وحده.

فهذه الشريعة وهذه الرسالة الخاتمة هي أكمل الرسالات وأتمها في تحقيق التوحيد لله عز وجل، حتى إنه ما كان من الأمور التي تجوز في الأمم السابقة كالسجود تحيةً وإكراماً مُنع في هذه الشريعة، فخلّصت كل ما يفضي إلى الشرك في الأقوال والأعمال والعقائد.

قال رحمه الله: (والدليل -أي: على إرساله ونذارته عن الشرك وأمره بالتوحيد- قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:١-٧] ، ومن بديع هذه الآيات أن الله سبحانه وتعالى افتتح الأوامر فيها بالنذارة، فأول آية أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالإنذار، وحصلت له بها الرسالة، واختتمت بالأمر بالصبر، وهذا فيه إشعار له صلى الله عليه وسلم أنه لن يتحقق له القيام بالنذارة والرسالة إلاّ بتحقيق الصبر، ولذلك اختتم الأوامر بقوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} ، وهذا حال كل من دعا إلى الله عز وجل، وكل من علَّم الناس فإنه يحتاج إلى صبر، ولذلك تكرر أمر لله جل وعلا لرسوله بالصبر في آياتٍ كثيرة، كقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور:٤٨] ، وما إلى ذلك من الآيات التي أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر.

بين الشيخ رحمه الله هذه الآيات فقال: [وَمَعْنَى (قُمْ فَأَنْذِرْ) : يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ وَيَدْعُو إلى التوحيد] .

واعلم أن كل ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إما أن يكون شركاً، وإما أن يكون سبباً موصلاً إلى الشرك، وإما أن يكون نقصاً في التوحيد، فالمعاصي التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها مثل الغيبة ليست شركاً، لكن هل هي من أسباب الشرك؟ الجواب: ليست من أسباب الشرك، ولكنها من نواقص التوحيد، وكل ذنبٍ ومعصيةٍ فإنه من نواقص التوحيد، ولذلك لما ذكر الله جل وعلا صرف السوء والفحشاء عن يوسف عليه السلام قال: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:٢٤] ، وفي قراءة: (الْمُخْلِصِينَ) ، فالإخلاص وكمال التوحيد من أعظم أسباب انصراف الإنسان عن المعاصي الدقيق منها والجليل.

وقوله: [يدعو إلى التوحيد] يعني: ببيانه وما يجب لله عز وجل منه، وأسباب تحقيقه، ويدعو إليه أيضاً ببيان عاقبة الموحدين.

فدعوة النبي صلى الله عليه وسلم دائرة على النهي عن الشرك والأمر بالتوحيد، مع أن الشريعة جاءت بأوامر كثيرة، لكن كل هذه الأوامر تدور في فلك تحقيق التوحيد، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: القرآن كله أمر بالتوحيد ونهي عن الشرك.

ويبين ذلك أن القرآن جاء بالنهي عن الشرك والأمر بالتوحيد، وبيان عاقبة المشركين، وبيان عاقبة الموحدين، وبيان ما يتم ويكمل به التوحيد، ولذلك كان التوحيد هو المحور الذي يدور عليه كتاب الله عز وجل.

ثم قال رحمه الله: [ {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} عظمه بالتوحيد] .

ولا شك أن أعظم ما يعظم به الرب سبحانه وتعالى هو التوحيد؛ لأن التوحيد فرع عن تعظيم الله، وغايته محبة الله عز وجل، فالتوحيد يقوم على هذين الأمرين: التعظيم، وهو الذل لله جل وعلا، والمحبة.

وبهما يحصل تمام التعظيم والتكبير لله جل وعلا، وبقدر ما يحصل من النقص في هذين الركنين العظيمين للتوحيد يحصل ما يقابله من نقص التوحيد والخلل فيه.

قال: ( {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: طهر أعمالك من الشرك) فجعل الثياب بمعنى الأعمال، وأصل الأعمال أعمال القلوب، فيجب تطهير أعمال القلب من كل شرك وكفر، وكذلك أعمال الجوارح، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: جمهور المفسرين من السلف على أن معنى قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: وقلبك فطهر، ويكون ذلك بإصلاح العمل والخلق، وكلا المعنيين صحيح وظاهر.

قال: ( {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرجز: الأصنام) والأصل في الرجز أنه يطلق على النجاسات والمستقذرات، ولاشك أن الأصنام من النجاسات المعنوية، كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:٩٠] ، فهي من النجاسات المعنوية التي يجب على المؤمن أن يتخلى عنها، وأن ينأى بنفسه عنها.

قال: (وهجرها -أي: هجر الأصنام- تركها وأهلها، والبراءة منها وأهلها) .

وذلك لأن الهجر أصله الترك والمفارقة، فأمر الله عز وجل بالترك والمفارقة للأصنام، وذلك بتركها وترك من يعظمها، وبالبراءة منها والبراءة من أهلها.

ثم توقف المؤلف رحمه الله عن بيان بقية الآيات؛ لأن المقصود فيما يستدل له قد حصل بالآيات الأربع السابقة، وهي قوله تعالى: {قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:٢-٥] .

أما قوله: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} فمعناه: لا تعطِ عطاءً ترجو أن يُهدى إليك، أو تُعطى أكثر منه.

وقيل في معنى {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} أي: لا تر ما تعمله أو ما تلقاه بسبب دعوتك الناس إلى التوحيد شيئاً كبيراً، فيحملك ذلك على الاستكثار من العمل يعني أنك تتعاظم هذا العمل فتقصر عن الزيادة وعن مزيد العمل، هكذا قيل في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} ، وكلاهما يصح تفسير الآية به.

وقوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:٧] أمر الله عز وجل نبيه بالصبر له، وذلك بأن يخلص صبره لله عز وجل؛ لأن من الناس من يصبر، لكن لا يستحضر أن صبره لله عز وجل، والمأمور به من الصبر هو الصبر لله سبحانه وتعالى احتساباً، فقوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} أي: اصبر احتساباً له ورغبةً فيما عنده، ورجاءً لثوابه وإعانته سبحانه وتعالى.

ثم قال رحمه الله: (وأخذ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ) أي: استمر على الدعوة إلى التوحيد عشر سنين يدعو إليه.

قال: (وَبَعْدَ الْعَشْرِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَفُرِضَتْ عليه الصلوات الخمس) وهذا فيه أنه لم يسبق هذا أمر بالصلاة، وقد اختلف في وقت العروج هل كان قبل ثلاث سنوات أو قبل سنتين أو أكثر أو أقل، والمهم أنه كان في آخر مدة إقامته في مكة صلى الله عليه وسلم، ولا يفهم من قوله رحمه الله أنه اقتصر في الدعوة إلى التوحيد على العشر السنوات الأولى ثم انقطعت الدعوة، هذا ليس مراداً ولم يقصده المؤلف رحمه الله، وإنما أراد بيان أن صلب ما كان يدعو إليه ويكرره على الناس طيلة العشر السنوات من الدعوة هو التوحيد فقط، ومع ذلك كان يدعو صلى الله عليه وسلم إلى صلة الأرحام وغيرها من أنواع الخير التي هي من مكملات التوحيد ومن فضائل الأخلاق، لكن صلب الدعوة وأصلها وأساسها ومحور الخلاف مع المشركين هو دعوته صلى الله عليه وسلم إلى عبادة الله وحده، ولذلك لم ينكر أهل مكة عليه غير هذه الدعوة، كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:٥] ، فإنما استغربوا وتعجبوا من هذه الدعوة لا من غ

<<  <  ج: ص:  >  >>