كتب إليه كتاباً لطيفاً يسأله اللحاق به، فلما قرأ إسحاق الكتاب ساءه ذلك، لأنه كان قد ضعف عن الخدمة، واشتغل بما فيه من المال، فكتب إليه: قدم إلي - أيدك الله - أبو نصر بكتاب منك، يرتفع عن قدري، ويقصر عنه شكري، فلولا ما عرفت من معانيه، لقلت: غلط بي فيه، فما لنا ولك يا أبا عبد الله، تركتنا حتى إذا نسينا الدنيا وأبغضناها، وأقبلنا على الِآخرة وآثرناها، ورجونا السلامة منها، أفسدت علينا قلوبنا، وعلقت بها أنفسنا وزينتها في أعيننا، وحببتها إلينا بما تجدده من أياديك التي يقصر عنها كل عيش ورخاء نعمة، ويكدر مع شرورها كل سرور، فبم هذا - أيدك الله - وأما ما ذكرت من شوقك إلينا، فلولا أنك حلفت عليه لقلنا:
يا من شكا عبثاً إلينا شوقه ... شكوى المحب وليس بالمشتاقِ
لو كنت مشتاقاً إلي تريدني ... ما طبت نفساً ساعةً بفراقي
وحفظتن حفظ الخليل خليله ... ووفيت لي بالعهد والميثاق
هيهات، قد حدثت أمور بعدنا ... وشغلت باللذات عن إسحاق
وقد تركت - أدام الله عزك، وأطال بقاءَك - ما كرهت من العتاب وغيره، وقلت أبياتاً لا أزال أخرج بها إلى ظهر المربد وأتنسم أرواحكم فيه ثم يكون، الله أعلم بنا. وهي هذه.
ألا قد أرى أن الثوى قليل ... وأن ليس يبقى للخليل خليلُ
وإني وإن مليت في العيش حقبة ... كذي سفر قد حان منه رحيلُ