غير حقيقي. هذا إلى أن هؤلاء المؤرخين القدماء لم يتناولوا في كتاباتهم إلا أماكن أو مناطق محدودة، هي التي أثارت انتباههم لسبب أو لآخر، أو هي التي استطاعوا أن يصلوا إليها أو يسمعوا عنها؛ ومن هنا فإن هذه الكتابات، حتى إذا تغاضينا عما جاء فيها من عيوب في جمع المعلومات أو تدوينها، لا يمكن أن ننظر إليها على أنها حصر لكافة الحضارات التي ظهرت في العصور القديمة أو لترتيبها الزمني.
فإذا انتقلنا إلى علم الآثار الذي يعني بالتنقيب عن المخلفات القديمة وكشفها وتفسير مدلولاتها، نجد أن هذا العلم لم يبدأ إلا منذ فترة وجيزة نسبيًّا لا تزيد في عمومها على قرن ونصف القرن. وفي هذا المجال فإننا إذا تغاضينا عن مجهودات الهواة أو المجهودات الاستطلاعية الفردية أو شبه الفردية، فإننا نجد أن التنقيبات الأثرية التي قامت على أساس منظم ومنتظم تدعمه الإمكانات العلمية والمادية لم يبدأ في مصر، على سبيل المثال، إلا في أواسط القرن الماضي, ولم يبدأ في العراق إلا في أواخره، ولم يبدأ في شبه الجزيرة العربية إلا في أواسط القرن الحالي، وهكذا نجد أنفسنا -مرة أخرى- بعيدين عن ادعاء المعرفة اليقينية بكل الحضارات السالفة أو بالتوقيت الدقيق لظهور ما نعرفه من بينها. وما أكثر ما يؤدي كشف أثري في منطقة أو في أخرى إلى تعديل في تواريخ ظهور الحضارات القديمة قد يصل إلى عدة قرون، أو إلى تسبيق ظهور حضارة على حضارة يؤدي إلى تعديل جذري في ترتيب كان معترفًا به، بكل ما يستتبعه هذا من تغيير في الأبعاد الحضارية من حيث التأثر والتأثير والتأصيل والتفصيل في الجوانب المتعددة التي تتشكل من مجموعها ومن تداخلاتها وتفاعلاتها هذه الحضارات.
ومن هنا فمن المرجح، أو على الأقل من المحتمل، أن هناك حضارات أخرى وجدت في فترة أو أخرى من العصور القديمة، غير تلك الحضارات التي وصل إلينا العلم بها، ولكنها لم تكشف إلا في حدود ضيقة أو لم تكشف