وفي وسط منطقة نشوء الحضارات التي رأينا أنها تمتد من حدود الإمبراطورية الفارسية عند مشارف الهند شرقًا إلى حدود الإمبراطورية الرومانية عند شواطئ المحيط الأطلسي غربا, تقع شبه الجزيرة العربية في النصف الجنوبي من القسم الأوسط. وقد بدأ أقدم دور حضاري كبير في منطقة نشوء الحضارات فعلا في القسم الأوسط من المنطقة، ولكنه ابتدأ في النصف الشمالي منها، في مصر ووادي الرافدين وسورية، حيث أخذ هذا الدور يظهر بشكل واضح، بعد فترة تمهيدية طويلة، ابتداء من الألف الرابعة ق. م. أما النصف الجنوبي الذي تشغله شبه جزيرة العرب فقد تأخر دوره الحضاري عن ذلك كثيرا. وفي الواقع فإن أقدم أقسام شبه الجزيرة من حيث الظهور الحضاري الملموس في العصور التاريخية القديمة، وهو القسم الجنوبي الغربي، لا نعرف عنه في مجال الإنجاز الحضاري إلا في فترة تعود إلى القرن الثامن ق. م. أو إلى القرن السابق له على أكبر تقدير١٠. وحقيقة إن المخلفات الأثرية في هذه
١٠ عثر في القسم الشمالي من شبه الجزيرة العربية "منطقة الأحساء والقطيف حاليا" على مخلفات حضارية في شكل بقايا فخارية ترجع إلى حضارة عصر العبيد "٤٠٠٠-٣٥٠٠ ق. م". وتشير هذه إلى اتصالات حضارية مع وادي الرافدين حيث اكتشفت بقايا هذه الفترة الحضارية "راجع الباب الرابع الخاص بالآثار والنقوش في هذه الدراسة، وراجع ملحق الخرائط، خريطة رقم ٥" ولكن هذه المخلفات الفخارية، حتى إن دلت على خطوات حضارية ذاتية مبكرة "وليست مجرد تأثر بحضارة وادي الرافدين في عصر العبيد، وهو أمر مرجح حتى الآن" فهو على أي الأحوال لم تستمر لتشكل كيانا حضاريا واضحا، ولم تمثل دورا حضاريا مؤثرا في العصور القديمة.