لا أهدف من هذه الدراسة إلى تقديم عرض شامل أو مفصل لتاريخ العرب في العصر السابق للإسلام، وإنما أردت أن تكون مدخلا حضاريا لهذا التاريخ يمكننا من فهمه في إطاره السليم، لا كحشد من الأحداث والأسماء والأوضاع تسرد كمقدمة مطولة لعصر لاحق، وإنما ككيان تاريخي يمتد عبر ستة عشر قرنًا في الحدود المعروفة لنا حتى الآن والتي تتسع من يوم إلى يوم كلما عثر المنقبون على أثر جديد أو على مجموعة من النقوش، وينتمي إلى عصر له أبعاده المميزة ومقوماته وعلاقاته وتياراته التي تتفق وهذه الأبعاد.
وفي حدود هذا الإطار الحضاري سارت الدراسة في خطين متوازيين ومتلازمين. وفيما يخص الخط الأول حاولت أن أجيب على عدد من التساؤلات التي لم تطرح حتى الآن، أو التي طرحت كنوع من الترف الفكري أو الاستكمال الشكلي للموضوع، الذي يكتفي بالتعريف بالمسائل أو بمناقشتها دون أن يوضح موقعها من تاريخ المنطقة ووقعها عليه. وفي هذا الصدد كانت التساؤلات الرئيسية التي طرقتها هي: أين تقف شبه الجزيرة العربية من المسار الحضاري الذي عرفه العالم في العصور القديمة؟ ما هو الأثر الذي تركته الظروف الطبيعية للمنطقة على مواردها الاقتصادية وعلى تكويناتها السياسية وأوضاعها الاجتماعية والدينية؟ ثم متى ظهرت هوية العرب في المجال الدولي؟ وما هو الشكل الذي اتخذته هذه الهوية وسط قوى الشرق والغرب المتصارعة في العالم القديم؟.
أما الخط الآخر فهو يخص مصادر الدراسة، وقد هدفت هنا إلى نقل تاريخ العرب قبل الإسلام إلى دائرة الاعتماد على المصادر الجادة الوحيدة