المنطقة التي نحن بصدد الحديث عنها، إذن، والتي أطلقنا عليها اصطلاحًا اسم منطقة نشوء الحضارات كانت، كما رأينا، أسبق من غيرها في ظهور الإنجازات الحضارية الأولى -مرة أخرى في حدود ما نعرفه من الحضارات القديمة حتى الآن. ولكن ما هي الظروف التي اختصت هذه المنطقة دون غيرها بالسبق الحضاري؟ هل هي الصدفة التاريخية؟ إن الصدفة التاريخية قد تلعب في أحيان غير قليلة دورًا كبيرًا في تحويل مسار الحضارة البشرية، وهو أمر من الطبيعي أن يسوقنا إلى التساؤل عما إذا كانت كذلك قد لعبت دورا في ظهور الحضارة البشرية. ولكن مع ذلك فالحديث عن عامل الصدفة حديث لا يمكن ضبطه أو تقنينه؛ ومن ثم، فرغم كونه واردًا من حيث الاحتمال، إلا أن الخوض فيه يصبح من قبيل الحديث عن الغيبيات التي يمكن أن تؤدي بنا إلى آفاق مجهولة.
كذلك هل نستطيع أن نعزو السبق الحضاري لمنطقة نشوء الحضارات إلى أسباب تتعلق بالتفوق العنصري للسكان الذين قطنوا هذه المنطقة منذ أقدم العصور البشرية؟ إن أحدث البحوث الأنثروبولوجية "المتعلقة بعلم الإنسان" قد أثبتت أن التفوق العنصري، فضلًا عن النقاء العنصري أصلا، خرافةً لا تقوم على أسس علمية٨. هذا، فضلا عن أن استقراء الواقع التاريخي منذ أقدم العصور حتى الوقت الحاضر، يثبت بشكل قاطع أن الإنجاز الحضاري لم يكن حكرا على عنصر بشري دون غيره من العناصر؛ ومن ثم يصبح الخوض في الحديث عن التفوق العنصري، هو الآخر، أمرًا لا يرتكز على أسس علمية يمكن أن نثق بنتائجها.
هل هناك أسباب أخرى لهذا السبق الحضاري الذي تميزت به المنطقة؟
٨ خوان كوماس "ترجمة محمد رياض": القاهرة ١٩٦٠، ص ٦٣.