جديدا لهذه الحقيقة أكثر اقترابا إلى الصواب. كذلك فيما يتصل بالشكل فإن المصدر التاريخي ليس من اللازم في كل الأحوال أن يكون سجلا مباشرا للأحداث أو المواقف، بل ربما كان الاستنتاج غير المباشر هو السبيل الوحيدة الواردة أمام الباحث في كثير من الأحيان, ودور الباحث هو أن يستخلص الحقيقة التاريخية التي يبحث عنها من الإطار الذي جاءت ضمنه أو الصورة التي عرضت بها. فقد تأتي الحقيقة متناثرة داخل عدة نصوص دينية أو قانونية أو سياسية أو قصصية أو غيرها, كما قد تعرض في صورة تقريرية أو تقديرية أو يمتزج فيها العرض التقريري بالعرض الوجداني أو حتى قد يداخلها الخيال في بعض الأحيان دون أن يقف هذا عائقا حقيقيا أمام استخلاصها.
وأما فيما يتعلق بالمضمون فإن القرآن الكريم، إلى جانب قداسة إشارته إلى كل الحقائق، فإنه يشير إلى عدد من الأحداث والمواقف الخاصة بمجتمع شبه الجزيرة العربية، والمعاصرة لنزوله أو التي سبقت ذلك بوقت قصير أو طويل ولكنها كانت لا تزال موجودة، بدرجات متفاوتة بين التعميم والتفصيل في وعي سكان شبه الجزيرة، ومن ثم فإن القرآن الكريم يبين لنا بشكل نابض مدى انفعال هذا المجتمع بهذه الأحداث والمواقف. كذلك فإن القرآن الكريم في محاولته تصحيح عدد من الأوضاع والممارسات التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي عند نزوله يعطينا فكرة واضحة عن هذه الأوضاع والممارسات وعن الدوافع التي أدت بهذا المجتمع إلى اتخاذها طريقا له وإلى التمسك بها والمجادلة عنها والتعنت في سبيل المحافظة عليها. وهي دوافع يسهب القرآن الكريم في عرضها وتفصيلها؛ ومن ثم يحصل الباحث على صورة تاريخية حية للصراع الذي شهده هذا المجتمع في نهاية العصر الجاهلي بين أسلوبين للحياة, أحدهما هو ما كان قائما فعلا والآخر هو ما كانت الدعوة الإسلامية بسبيل تقديمه.