وفي ضوء هذا الاعتبار, وفي ضوء ما أسلفت الإشارة إليه من أن تدوين الشعر الجاهلي أو تدوين بعض منه على الأقل, ومن أن الرواية "أو الرواية والتدوين" كانت مستمرة بين العصر الجاهلي والقرن الأول الهجري كما سبق أن رأينا ذلك لدى شعراء هذا القرن الذين أسلموه إلى العلماء والرواة ابتداء من القرن الثاني، فإني أؤيد ما ذهب إليه أحد الباحثين العرب المعاصرين المتخصصين في الشعر الجاهلي من "أن بعض ... المدونات الشعرية الأولى قد وصلت إلى علماء الطبقة الأولى من الرواة، وأنهم اعتمدوها مصدرًا من مصادر تدوينهم لهذه الدواوين التي رواها عنهم تلاميذهم, وأن هؤلاء العلماء الرواة في القرن الثاني الهجري كانوا يعتمدون -هم وتلاميذهم- نسخًا متكوبة من هذه الدواوين في مجالس علمهم وحلقات دروسهم، وأن الشيخ منهم كان يقرأ شعر الشاعر من نسخته، أو يقرؤها أحد تلاميذه، ثم يعقب الشيخ على الشعر بالشرح والنقد والتحقيق والتمحيص"٤٣.
ويستطرد الباحث ليذكر أنه إلى جانب هذه المدونات كانت هناك الرواية بطبيعة الحال، يحصل عليها العالم من شعراء من قبيلة الشاعر تناقلوها جيلًا بعد جيل، كما كان هناك تداول العلماء الرواة فيما بينهم يعرف الواحد منهم من الآخر ما قد يكون على علم به من قصائد أخرى أو يعرف منه أن شعرا قد نسب إلى أحد الشعراء خطأ أو نحله هذا الشاعر عمدا, ثم يقرأ هذا على تلاميذه ويتناقشون فيه وينتهي إلى أن يزيد أو ينقص في مدونته من شعر في ضوء كل هذا. "ثم جاء علماء الطبقة الثالثة ومن تلاهم من العلماء -بين منتصف القرن الثالث ونهاية القرن الخامس الهجري- فوجدوا بين أيديهم نسخا متعددة لديوان واحد، رويت كل نسخة عن واحد من علماء الطبقة الأولى في البصرة أو الكوفة، فصنع هؤلاء العلماء المتأخرون نسخا جديدة أفرغوا فيها جميع روايات العلماء السابقين، وأشاروا في مواطن كثيرة إلى أن