للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم

فإنه كنى عن سيف الدولة، أولاً: بالحبيب المعمم، ثم وصفه بالغدر الذي يدعى أنه من شيمة النساء، ثم لامهُ على مبادهته بالعدوان، ثم رماه بالجبن، لأنه يرمى ويتقى الرمي بالاستتار خلف غيره، على أن المتنبي لا يجازيه على الشر بمثله، لأنه لا يزال يحمل له بين جوانحه هوى قديماً، يكسر كفه وقوسه، وأسهمه، إذا حاول النضال، ثم وصفه بأنه سىء الظن بأصدقائه لأنه سيء الفعل، كثير الأوهام والظنون، حتى ليظن أن الناس جميعاً مثله في سوء الفعل، وضعف الوفاء، فانظر كيف نال المتنبي من سيف الدولة هذا النيل كلهن من غير أن يذكر من اسمه حرفاً.

هذا - ومن أوضح مميزات الكناية التعبير عن القبيح بما تسيغ الآذان سماعه، وأمثلة ذلك كثيرة جداً في القرآن الكريم، وكلام العرب فقد كانوا لا يعبرون عما لا يحسن ذكره الا بالكتابة، وكانوا لشدة نخوتهم يكنون عن المرأة (بالبيضة - والشاة) ومن بدائع الكنايات قول بعض العرب:

ألا يا نخلة من ذات عرق عليك ورحمة الله السلام (١)

فانه كنى بالنخلة، عن المرأة التي يحبها - عن البلاغة الواضحة بتصرُّف

أثر علم البيان في تادية المعاني

ظهر لك من دراسة علم البيان: أن معنى واحداً يستطاع أداؤه بأساليب عدة، وطرائق مختلفة، وأنه قد يوضع في صورة رائعة من صور التشبيه أو الاستعارة، أو المجاز المرسل، أو المجاز العقلي، أو الكناية، قد يصف الشاعر انساناً بالكرم، فيقول:

يريد المُلوكُ مدى جعفرٍ ولا يصنعونَ كما يصنعُ

وليس بأوسعهم في الغنى ولكنَّ معروفه أوسعُ

وهذا كلام بيلغ جداً، مع أنه لم يقصد فيه إلى تشبيه أو مجاز، وقد وصف الشاعر فيه ممدوحه بالكرم، وأن الملوك يريدون أن يبلغوا منزلته، ولكنهم لا يشترون الحمد بالمال كما يفعل مع أنه ليس بأغنى منهم، ولا بأكثر مالا، وقد يعمد الشاعر: عند الوصف بالكريم إلى اسلوب آخر، فيقول:

كالبحر يقذف للقريب جواهراً جوداً ويبعثُ للبعيد سحائبا


(١) ذات عرق موضع بالبادية وهو مكان احرام أهل العراق.

<<  <   >  >>