للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"كيف تعرفه؟ "، قال: "أعرفه بتفهم أمرِه ونهيه"، قال: "وكيف تتعرف إليه؟ " قال: "أتعرَّف إليه بالعمل بما علَّمني"، قال أبوه: "يا بني! لا أعرضُ لك في أمرك هذا ما بقيت".

* وقال على بن الجعد: أخبرني أبو يوسف قال: (تُوُفِّي أبي: إبراهيمُ بن حبيب، وخلَّفني صغيرًا في حجر أمي، فأسلمتني إلى قَصَّارٍ (١) أخدمه، فكنت أدَعُ القصَّار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة، فأجلس أستمع، فكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة، فتأخذ بيدي وتذهب بي إلى القصَّار، وكان أبو حنيفة يُعنَى بي لما يَرَى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثَرُ ذلك على أمي، وطال عليها هربي، قالت لأبي حنيفة: "ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبيٌّ يتيم لا شيء له، وإنما أطعمه من مِغزلي! وآمُلُ أن يكسب دانقًا يعودُ به على نفسه"، فقال لها أبو حنيفة: "مُرِّى يا رَعْنَاء، هو ذا يتعلَّم أكلَ الفالُوذَج بُدهْن الفُسْتَق"، فانصرفت عنه وقالت له: "أنت شيخٌ قد خَرِفْتَ وذهبَ عقلُك").

قال أبو يوسف: (ثم لَزِمتُ أبا حنيفة، وكان يتعاهدني بماله، فما ترك لي خَلَّة، فنفعني الله بالعلم، ورفعني حتى تقلَّدتُ القضاء، وكنت أجالس هارون الرشيد، وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قُدم إلى هارون الرشيد فالوذج، فقال لي هارون: "يا يعقوب كُلْ منه فليس يُعمل لنا مثلُه كل يوم"، فقلت: "وما هذا يا أمير المؤمنين؟ "، فقال: "هذا فالوذج بُدهْن الفستق"، فضحكت، فقال لي: "مِمَّ ضحكتَ؟ "، فقلت: "خيرًا أبقى الله أمير المؤمنين"، قال: "لتخبرني" -وألحَّ عليَّ- فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها،


(١) القَصَّار: المُبَيِّضُ للثياب، وهو الذى يهيئ النسيج بعدَ نَسْجه ببلّه ودَقّه بالقَصَرةَ، وهي قطعة من الخشب.

<<  <   >  >>