للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

خرج فترى الفيل، لأنه لا يكون بالأندلس فقال له يحيى: "إنما جئت من بلدي لأنظر إليك، وأتعلمَ من هديك، وعلمك، ولم أجىء لأنظر إلى الفيل"، فأعجب به مالك، وسماه "عاقل أهل الأندلس").

إنه من المباح مشاهدة حيوان غريب .. ولكن وقت الداعية القدوة أضيق من أن يشغل شيئًا منه لي مباح، لا يجني من ورائه شيئًا لقضيته التي تشغله ليل نهار.

ولما فرَّ "عبد الرحمن الداخل" من العباسيين، وتوجه تلقاء

الأندلس، أهديت إليه جارية جميلة، فنظر إليها، وقال: "إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن اشتغلت بها عما أطلبه ظلمت همتي، ولا حاجة لي بها الآن، وردَّها على صاحبها" (١).

لقد حفل تراثنا الاسلامي بمواقف رائعة تشي بعلو همة سلفنا الصالح، وتعلن عن نظرتهم العميقة إلى حقائق الأشياء، وتساميهم على المظهرية الجوفاء، وترفعهم عن سفاسف "التطوس" الكاذب، واعتزازهم بانتمائهم إلى الدين الحنيف، دين العزة والكرامة، فمن ذلك ما صح عن ابن شهاب قال: "خرج عمر بن الخطاب إلى الشام، ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة، فنزل عنها، وخلع خفيه، فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته، فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أأنت تفعل هذا؟! تخلع نعليك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك! فقال عمر: أوَّه لو يقل ذا غيرُك أبا عبيدة جعلتهُ


(١) "نفح الطيب" (٤/ ٤٣).

<<  <   >  >>