ثم ذكر أنه لا يعلم الآن في كتب المحدثين كتابًا أجمع لأحاديث الشريعة وآثارها منه، فإنه جمع -مع صغر حجمه- أدلة المجتهدين المشهورة، وإن أردت امتحان ذلك فانظر في أي باب منه، وانظر ذلك الباب في جميع أبواب كتب المحدثين تجد جميع ما قالوه في أبواب كتبهم كلها مستوفى في باب واحد، فإن كتب المحدثين إنما طالت بذكر السند وتكرار الأحاديث فلله الحمد، ولم أعز أحاديثه إلى من خرجها من الأئمة؛ لأني ما ذكرت فيه إلا ما استدل به الأئمة المجتهدون في مذاهبهم، وكفانا صحة لذلك الحديث استدلال مجتهد به، وملت فيه إلى الاختصار، فلا أذكر من كل حديث إلا محل الاستدلال المطابق للترجمة، فأقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا أو يقول أو يأمر بكذا أو ينهى عن كذا أو يشدد في كذا ومرادي مكان وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ولو مرة، ثم "قد" يكون ذلك الأمر قد تكرر وقوعه منه صلى الله عليه وسلم وقد لا يكون تكرر، ولا أذكر القصة التي سبق فيها الحديث إلا إن اشتملت على موعظة أو اعتبار أو أدب من الآداب، ولا أكرر حديثًا في باب واحد إلا لزيادة حكم ظاهر لم يكن في الحديث الذي قبله، والذي دعاني إلى شدة هذا الاختصار مناسبة الزمان والسامعين، من غالب الفقراء والمحترفين من عامة المسلمين، وتعجيل ذكر ما هو المقصود من الحديث، ولم أمل فيه إلى تأويل حديث ولا إلى النسخ بالتاريخ -كما يفعله بعضهم- أدبًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتقيد كلامه فيما فهمه عالم دون آخر، وأن ينسخ غيره كلامه؛ إذ لا ناسخ لكلامه صلى الله عليه وسلم إلا هو كقوله:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها" وقوله: "كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فادخروا، وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الحنتم والنقير فانتبذوا غير ألا تشربوا مسكرًا".
وقال أطال في هذا المنهج بما يؤكد أنه نقل السنة النبوية الكريمة في موضوعات الأحكام وما يتعلق بها بكل دقة وأدب وورع، وإنما هي الأمانة العلمية التي تقتضي أداءها كما هي، ونقلها بتصرف وحكمة مع تركها للقارئ يفهمها بما يفتح الله به عليه.
غير أننا نلاحظ أن له استطرادات عديدة نضحها عليه اتجاهه الصوفي، وحرصه على ربط النفوس بحب الرسول صلى الله عليه وسلم، وحفزها على التأسي به، ودراسة الكثير من أخلاقه وشمائله، مع حرصه على الترغيب والترهيب بتصوير أنواع من الثواب والعقاب، وكل ما عمله من تصرف هو بالقدر الذي يكفل تعجيل المنفعة للقارئ والسامع، مع عدم كده في المراجعات إلا أن يكون على سبيل الامتحان للاطمئنان إلى أنه استوعب ما في بطون كتب السنة، ولم يدخر منه شيئًا نصحًا للأمة، وفي هذا منه مسايرة للزمان الذي تطور فيه أمر التأليف بما يساير ظروف المجتمعات، ولهذا نرى أن النقل يختلف في كل زمان عنه في الزمان الآخر.
فهذا الذي صنعه الإمام الشعراني لا يخرج أن يكون ثمرة لهذه التطورات، وأثرًا لانصباب دراسات الأئمة وتجاربهم في العصور المختلفة التي عهدت بها عناية الله ورعايته إلى من يصطفيه من هذه الأمة ليبلغهم رحيق الدين، وخالص ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وتلامذته الذين ورثوه