وفي شمال الجزيرة العربية؛ حيث قرب قبائلها من الفرس والروم، تأسست مملكتان، هما: مملكة الحيرة في الشرق تابعة للفرس، ويحكمها المناذرة، ومملكة الغساسنة في الغرب تابعة للروم.
وقد اتخذ الفرس والروم هاتين المملكتين حائلا بشريا لكل منهما، يتقي به هجوم الدولة الأخرى.
وقد تشبه ملوك العرب في كل دولة بأسيادهم، وساند كلا منهم جيش كبير مدعوم من الفرس أو من الروم.
وكثيرا ما قامت الحروب بين الغساسنة والمناذرة، وبذلك تحقق للدول الكبرى ما أرادت؛ حيث كان الصدام بين العرب والعرب، ولم يقع صدام بين الفرس والروم بصورة مباشرة.
إلا أن هذا الحال أدى في الوقت نفسه إلى عدم العدوان على داخل الجزيرة العربية؛ حيث لا مطمع لأحد من الفرس أو من الروم فيها؛ لأنها بدت في نظرهم أماكن صحراوية، متباعدة، خالية من الخير والنفع، وتحتاج لجهد كبير من أجل السيطرة عليها.
وأما أقاليم نجد والعروض والحجاز وتهامة، فقد عاشت حياة بدوية، تعتمد على الرحلة والتنقل ما عدا أهل مكة والمدينة والطائف، فقد سكنها أهلها وعاشوا حياتهم بين الحضارة والبداوة، فقد أخذوا الحضارة من الحجاج والزوار والتجار، وتمسكوا ببداوتهم التي ورثوها، وعاشوا نظامهم عليها.
ومن هنا كان لهم شيء من الحضارة، ففي مكة أنشأ "قصي بن كلاب" نظاما سياسيا، فأسس دارا سماها "دار الندوة" وجعل بابها يؤدي إلى الكعبة، وخصصها لاجتماع كل من بلغ أربعين سنة، متمتعا بالحكمة، والفصحاة، وتدبر الأمور من أهل مكة، ولا يستثنى من شرط السن فقط إلا أبناء قصي١.