لم تستمر البشرية على بداوتها الأولى، ولكنها تقدمت تقدما هائلا في المدنية والتحضر المادي.
وقد برز ذلك بوضوح في اكتشاف طرق الاتصال العديدة، التي ربطت العالم كله، وأصبح التجار يرحلون ببضائعهم إلى كل مكان في المعمورة، ويركبون البحر على اتساعه وعمقه، وصار شرق إفريقيا وبلاد الحبشة مرتبطا باليمن والجزيرة العربية، وتمكن تجار مكة من الرحلة بقوافلهم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا في يسر وأمان.
ولم تعد المحيطات حاجزا يمنع من التنقل، وإنما ساهمت الصناعات العديدة في تحقيق التواصل، وسهولة الانتقال من مكان إلى مكان.
صحيح أن التواصل لم يكن سلاما كله، فلقد نشأت الحروب، وسيطر الأقوياء على الضعفاء، وتحولت البلاد الصغيرة إلى ولايات تابعة للفرس أو للروم، تستغل خيرها، وتسخر أصحابها لخدمتهم ومصالحهم.
ومع ذلك ففي التواصل كسب مادي، وارتقاء عقلي، ومعرفة عبادات وفكر الآخرين.
وكثيرا ما انتقلت العادات والأفكار والمذاهب مع هؤلاء المسافرين.
وقد حاول القسس والأباطرة الاستفادة بهذه التطورات المدنية، فعقدوا المؤتمرات والمجامع العالمية التي كان يحضرها الآلاف منهم في كنائس مصر، أو في بيت المقدس، أو في الشام، أو في أوربا، بسهولة وأمان.
وهاجر المسلمون إلى الحبشة وكأنها بلد مجاور لمكة..
وظهر في كل إقليم من يتقن المعرفة بالطرق، وقيادة القوافل في الرحلة والحركة.
ولما جاء الإسلام ساهمت هذه الخاصية في نشر الدعوة وتبليغها للناس في كل مكان؛ حيث تمكن الدعاة من الوصول إلى كل مكان قصدوا التبليغ فيه؛ لأن الطريق معروف لهم، ومخاطبة أهل البلاد أمر عادي لسابق إحاطتهم بلغتهم وعاداتهم.