ويكفي حياته المكية؛ لأن مكة في ذلك الزمان كانت تحتوي على كافة أنماط المجتمع البشري؛ حيث جعلها الله بوتقة تضم كل ألوان وأطياف البشر؛ لتكون معمل الخبرة والتجربة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللدعوة إلى الله تعالى.
إن معرفة المدعوين، والوقوف على المثيرات الوجدانية والعقلية، ضرورة للدعوة، وحتى لا يحدث انفصال بين الداعية والناس.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث كل قوم بلغتهم، وفي كل أمر يهمهم، وحين يقدم لهم الآيات الدالة على صدق الدعوة اختار الأدلة المناسبة، فإن كانوا من أهل الزرع خاطبهم في الأشجار والنبات والثمار، وإن كانوا من أهل البحر خاطبهم بالماء والسفن واللؤلؤ والمرجان ... وهكذا.
إن خطاب العالم يختلف عن خطاب العامي بالضرورة، كما أن الحديث مع الكبير ليس كالحديث مع الصغير، والقضايا التي تحرك الرجل ليس هي التي تحرك المرأة.
والإنسان كما يتاثر بالجماعة يتأثر بالبيئة والثقافة والتوجه العام للمجتمع، فالإنسان الشرقي يختلف عن الإنسان الغربي، والعربي غير العجمي، ومن ثقافته علمية ليس كمن ثقافته فنية أدبية.. والإنسان في مجتمع مستقر يفكر بطريقة تغاير الإنسان في مجتمع مضطرب قلق.
وهذه نماذج لمدى تنوع الناس، وتعدد بؤر التأثير فيهم، مما يؤكد ضرورة تفاعل الدعاة مع المخاطبين، ومخاطبتهم بما يناسبهم١.
وفي العصر الحديث رأينا مدى تأثير الدعاة في أقوام يتفاعلون معهم، وما كان ذلك إلا بسبب معرفة الدعاة الشاملة بواقع المدعوين وطبائعهم.. الأمر الذي مكنهم من مخاطبتهم الحسنى، ومناقشتهم بالدليل المقنع، والبرهان السديد.
١ لقد عاصرت مجموعة من الدعاة أرسلهم الأزهر الشريف -مشكورا- للدعوة في بعض البلدان الإفريقية، لكنهم لعدم معرفة لغة وأحوال الناس ظلوا مدة طويلة يعلمونهم مبادئ اللغة العربية، ولم يتمكنوا من تبليغهم دين الله تعالى.