ومنها: أن أعداءه مع كون حالهم ما وصفناه، كانوا على أديان وجدوا عليها آباءهم، ونشأوا عليها، وألفتها طباعهم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى تركها، وأن يتبعوا ما جاء به من الشريعة والمنهاج. وكان أول من دعا إلى ذلك العرب الذين هم أقوى الناس نفوسا، وأقساهم قلوبا، وأشدهم توحشا، وأمنعهم جانبا، وأحبهم لأن يغلبوا، ولا يغلبوا، وأعسرهم انقيادا للملوك، وأجفاهم أخلاقا، وأقلهم احتمالا للضيم والذلة، فما كانوا ليجيبوا إلى ما طلبه منهم إلا لما رأوه من الآيات وشاهدوه من المعجزات الدالة على أنه رسول الله، أو بأمر خارق للعادة، ليس من صنع البشر، فكان معجزا، فدل على أنه من عند الله.
ومنها: أن تلك الفتوحات وقعت في مدة قريبة، ففتحت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جزيرة العرب كلها إلى ما يليها من أرض الشام في مدة عشر سنين، فدخلوا في طاعته، والتزموا دينه، وتركوا أديانهم، سوى من قبلت منه الجزية والصغار، وهذا ما لم يعهد له نظير.
وكذلك الفتوحات الواقعة في أيام خلفائه الراشدين في المشارق والمغارب، كان ذلك في أقرب مدة، وكانت أعداؤهم في غاية الكثرة والشجاعة، والقوة والنجدة، ولم يكن للمسلمين إذ ذاك من العدد والعدة والقوة ما يكون له نسبة بجنب ما عند أعدائهم من ذلك، فكيف بما كافأتهم؟ فلا يرتاب عاقل أن ما أعطوه من الظهور والغلبة ليس إلا بالنصر الإلهي والتأييد السمائي، الخارق للعوائد، الدال على صدق من جاء بهذه الشريعة، وأنها مرضية لله.