للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العلمي؛ بل على أنه متهم يقف أمام قضاته، إن بعض المستشرقين يمثلون دور المدعي العام الذي يحاول إثبات الجريمة، وبعضهم يقوم مقام المحامي في الدفاع، فهو مع اقتناعه شخصيًّا بإجرام موكله لا يستطيع أكثر من أن يطلب له مع شيء من الفتور اعتبار الأسباب المخففة. وعلى الجملة فإن طريقة الاستقراء والاستنتاج التي يتبعها أكثر المستشرقين تذكرنا بوقائع دواوين التفتيش، تلك الدواوين التي أنشأتها الكنيسة الكاثوليكية لخصومها في العصور الوسطى، أي إن تلك الطريقة لم يتفق لها أبدًا أن نظرت في القرائن التاريخية بتجرد، ولكنها كانت في كل دعوى تبدأ باستنتاج متفق عليه من قبل، قد أملاه عليها تعصبها لرأيها. ويختار المستشرقون شهودهم حسب الاستنتاج الذي يقصدون إليه مبدئيًّا. وإذا تعذر عليهم الاختيار العرفي للشهود، عمدوا إلى اقتطاع أقسام من الحقيقة التي شهد بها الشهود الحاضرون ثم فصلوها من المتن أو تأولوا الشهادات بروح غير علمي من سوء القصد من غير أن ينسبوا قيمة ما إلى عرض القضية من وجهة نظر الجانب الآخر، أي من قبل المسلمين أنفسهم.

وليست نتيجة هذه المحاكمة سوى صورة مشوهة للإسلام وللأمور الإسلامية تواجهنا في جميع ما كتبه مستشرقو أوروبا. وليس ذلك قاصرًا على بلد دون آخر -إنك تجده في إنكلترا وألمانيا، وفي روسيا وفرنسا، وفي إيطاليا وهولنده- وبكلمة واحدة: في كل صقع يتجه المستشرقون فيه بأبصارهم نحو الإسلام، ويظهر أنهم ينتشون بشيء من السرور الخبيث حينما تعرض لهم فرصة -حقيقية أو خيالية- ينالون بها من الإسلام عن طريق النقد"١.

ومن هنا نجد أن هنالك دافعًا رئيسيًّا للاستشراق لا يمكن أن يوصف بأنه دافع علمي؛ لأنه لا يحرص على الحقيقة، بل يحاول تشويهها، بباعث من تعصب راسخ عميق الجذور يعود إلى النزعة العدوانية الحاقدة التي دفعت


١ محمد أسد: "الإسلام على مفترق الطرق" ص٥٢-٥٤.

<<  <   >  >>