انظر إليهم كيف يشيعون في بلادنا القوميات التاريخية التي عفى عليها الزمن، واندثرت منذ حمل الغرب رسالة الإسلام، فتوحدت لغتهم وعقيدتهم وبلادهم، وحملوا هذه الرسالة إلى العالم فأقاموا بينهم وبين الشعوب روابط إنسانية وتاريخية وثقافية ازدادوا بها قوة وازدادت الشعوب بها رفعة وهداية، إنهم ما برحوا منذ نصف قرن يحاولون إحياء الفرعونية في مصر، والفينيقية في سوريا ولبنان وفلسطين، والآشورية في العراق وهكذا، ليتسنى لهم تشتيت شملنا كأمة واحدة، وليعوقوا قوة الاندفاع عن عملها في قوتنا وتحررنا وسيادتنا على أرضنا وثروتنا، وعودتنا من جديد إلى قيادة ركب الحضارة، ووحدتنا مع إخوتنا في العقيدة والمثل العليا والتاريخ والمصالح المشتركة.
وإذا كان السبب الرئيسي المباشر الذي دعا الأوروبيين إلى الاستشراق هو سبب ديني في الدرجة الأولى-كما أسلفنا- لما تركته الحروب الصليبية في نفوس الأوروبيين من آثار مرة عميقة، فقد أقبل الأوروبيون على الاستشراق ليتسنى لهم تجهيز المبشرين وإرسالهم للعالم الإسلامي، والتقت هنا مصلحة المبشرين مع أهداف الاستعمار -في نطاق حركة الاستشراق- فمكن الاستعمار لهؤلاء المستشرقين المبشرين، واعتمد عليهم في بسط نفوذه في الشرق، كما استطاع المبشرون المستشرقون إقناع زعماء الاستعمار بأن المسيحية ستكون قاعدة الاستعمار الغربي في الشرق، وبذلك سهل الاستعمار لهؤلاء مهمتهم وبسط عليهم حمايته، وزودهم بالمال والسلطان، وهذا هو السبب في أن الاستشراق قام في أول أمره على أكتاف المبشرين والرهبان ثم اتصل بالاستعمار١.
٣- الدافع السياسي:
وهنالك دافع آخر أخذ يتجلى في عصرنا الحاضر بعد استقلال أكثر الدول
١ انظر: "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" تأليف: الدكتور محمد البهي ص٥٣٣.