الشك في قدسها، أو النقاش في كرامتها ومكانتها علامة للرجعية، وإنكارًا للبداهة، والمشهود المحسوس، وقد التبس الأمر بذلك على كبار الأذكياء، ونوابغ العلماء؛ فأصبحوا يتغنون بهذه الشعارات والفلسفات، ويدعون إليها في إيمان وحماسة من غير تمحيص لنية أصحابها وإخلاصهم، أو شجاعة في تحديد نجاحها أو إخفاقها في مجال العمل والتطبيق، والمقارنة الصحيحة المحايدة بين ما كسبته الإنسانية والأمم الضعيفة، وبين ما خسرته من سلطان هذه الشعارات وتحت رايتها من السعادة الحقيقية، والحقوق الفطرية، وهذا كله من قوة التدجيل وسحره الذي تفوق فيه "الدجال الأكبر" على جميع الدجالين والمدلسين والمموهين، الذين عرفهم التاريخ البشري. وقد سرت هذه الروحية "الدجلية المدلسة" في هذه الحضارة لسيرها على خط معارض لخط النبوة، والإيمان بالآخرة، والإيمان بالغيب، والإيمان بفاطر الكون، وقدرته المطلقة، واحترام شريعته وتعاليمه، وللاعتماد الزائد على الحواس الظاهرة، والشغف الزائد بما يعود على الإنسان باللذة البدنية، والمنفعة العاجلة والغلبة الظاهرة"١.
وإن هذه الثقافات المرتكزة على النظرات البشرية والفلسفات المحدودة والمرتبطة بقيود الزمان والمكان والخاضعة لمؤثرات البيئات والظروف، والمتأثرة بالأزمات النفسية والهزات الاجتماعية، وما ينجم عنها من ردود الفعل التي يبعدها عن العمق والصدق والاتزان.. إن هذه الثقافات -وهذا حالها- إنما تعيش في الحقيقة خارج دائرة الوجدان الإنساني في أصالته ونقائه؛ فهي بعيدة كل البعد عن أي نزعة تحفظ للإنسان مكانته الرفيعة التي أكرمه الله بها، ولا تملك إلا أن تسوق الإنسان بنزعة القوة التي تسيطر بها عليه سيطرة تسلبه بها حريته، أو نزعة الخديعة التي تسلبه
١ أبو الحسن علي الحسني الندوي: "الصراع بين الإيمان والمادية" ص١٣