وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: إذَا لَمْ يَقْرَأْهُ عَلَيْهِمَا الْقَاضِي: لَمْ يَعْمَلْ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ بِمَا فِيهِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ. وَحُجَّتُهُمْ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ الشَّاهِدُ إلَّا بِمَا يَعْلَمُ. وَأَجَابَ الْآخَرُونَ بِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْهَدَا بِمَا تَضَمَّنَهُ، وَإِنَّمَا شَهِدَا بِأَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي وَذَلِكَ مَعْلُومٌ لَهُمَا، وَالسُّنَّةُ الصَّرِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ، وَتَغَيُّرُ أَحْوَالِ النَّاسِ وَفَسَادُهَا يَقْتَضِي الْعَمَلَ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ، وَقَدْ يَثْبُتُ عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ أُمُورِ النَّاسِ مَا لَا يَحْسُنُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ، مِثْلَ الْوَصَايَا الَّتِي يَتَخَوَّنُ النَّاسُ فِيهَا، وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ - فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ - أَنْ يَشْهَدَا عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمَخْتُومَةِ، وَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ. أَنْ يَشْهَدَا عَلَى الْكِتَابِ الْمُدْرَجِ، وَيَقُولَا لِلْحَاكِمِ: نَشْهَدُ عَلَى إقْرَارِهِ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا بِمَا أَقَرَّا، وَالْجُمْهُورُ لَا يُجِيزُونَ الْحُكْمَ بِذَلِكَ.
قَالَ الْمَانِعُونَ مِنْ الْعَمَلِ بِالْخُطُوطِ: الْخُطُوطُ قَابِلَةٌ لِلْمُشَابَهَةِ وَالْمُحَاكَاةِ، وَهَلْ كَانَتْ قِصَّةُ عُثْمَانَ وَمَقْتَلُهُ إلَّا بِسَبَبِ الْخَطِّ؟ فَإِنَّهُمْ صَنَعُوا مِثْلَ خَاتَمِهِ، وَكَتَبُوا مِثْلَ كِتَابِهِ، حَتَّى جَرَى مَا جَرَى، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا تَشْهَدُ أَبَدًا إلَّا عَلَى شَيْءٍ تَذْكُرُهُ، فَإِنَّهُ مَنْ شَاءَ انْتَقَشَ خَاتَمًا، وَمَنْ شَاءَ كَتَبَ كِتَابًا. قَالُوا: وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْآثَارِ: فَنَعَمْ، هَاهُنَا أَمْثَالُهَا، وَلَكِنْ كَانَ ذَاكَ إذْ النَّاسُ نَاسٌ، وَأَمَّا الْآنَ: فَكَلَّا وَلَمَّا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ قَدْ تَغَيَّرَ فِي زَمَنِ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، حَتَّى قَالَ مَالِكٌ: كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمِ إجَازَةُ الْخَوَاتِمِ، حَتَّى أَنَّ الْقَاضِيَ لَيَكْتُبُ لِلرَّجُلِ الْكِتَابَ، فَمَا يَزِيدُ عَلَى خَتْمِهِ، حَتَّى اُتُّهِمَ النَّاسُ، فَصَارَ لَا يُقْبَلُ إلَّا شَاهِدَانِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا يُقْضَى فِي دَهْرِنَا هَذَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ، لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوا ضُرُوبًا مِنْ الْفُجُورِ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِيمَا مَضَى يُجِيزُونَ الشَّهَادَةَ عَلَى خَاتَمِ كِتَابِ الْقَاضِي.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي الدَّابَّةِ يُوجَدُ عَلَى فَخِذِهَا " صَدَقَةٌ " أَوْ " وَقْفٌ " أَوْ " حَبْسٌ " هَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِذَلِكَ؟ .
قِيلَ: نَعَمْ، لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ وَصَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ، فَإِنَّ هَذِهِ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَلَعَلَّهَا أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «غَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ لِيُحَنِّكَهُ، فَوَافَيْتُهُ فِي يَدِهِ الْمِيسَمُ يَسِمُ إبِلَ الصَّدَقَةِ» ، وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْهُ قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَسِمُ غَنَمًا فِي آذَانِهَا» .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute