وَرَوَى مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّإِ " عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إنَّ فِي الظَّهْرِ نَاقَةً عَمْيَاءَ، فَقَالَ عُمَرُ: ادْفَعْهَا إلَى أَهْلِ الْبَيْتِ يَنْتَفِعُونَ بِهَا، قَالَ: فَقُلْتُ: هِيَ عَمْيَاءُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَقْطُرُونَهَا بِالْإِبِلِ، قَالَ: فَقُلْتُ: كَيْفَ تَأْكُلُ مِنْ الْأَرْضِ؟ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: أَمِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ هِيَ، أَمْ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ؟ فَقُلْتُ: مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَرَدْتُمْ وَاَللَّهِ أَكْلَهَا؛ فَقُلْتُ: إنَّ عَلَيْهَا وَسْمَ الْجِزْيَةِ "، وَلَوْلَا أَنَّ الْوَسْمَ يُمَيِّزُ الصَّدَقَةَ مِنْ غَيْرِهَا، وَيَشْهَدُ لِمَا هُوَ وَشْمٌ عَلَيْهِ؛ لَمْ تَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ بَلْ لَا فَائِدَةَ لِلْوَسْمِ إلَّا ذَلِكَ؛ وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ الْوَسْمَ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ عِنْدَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي الدَّارِ يُوجَدُ عَلَى بَابِهَا أَوْ حَائِطِهَا الْحَجَرُ مَكْتُوبًا فِيهِ " إنَّهَا وَقْفٌ " أَوْ " مَسْجِدٌ " هَلْ يُحْكَمُ بِذَلِكَ؟ .
قِيلَ: نَعَمْ؛ يُقْضَى بِهِ؛ وَيَصِيرُ وَقْفًا؛ صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا؛ وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ الْحَارِثِيُّ فِي " شَرْحِهِ " فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَنْقُلَ الْحَجَرَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؟ .
قِيلَ: جَوَازُ ذَلِكَ كَجَوَازِ كَذِبِ الشَّاهِدَيْنِ؛ بَلْ هَذَا أَقْرَبُ؛ لِأَنَّ الْحَجَرَ الْمُشَاهَدَ جُزْءٌ مِنْ الْحَائِطِ دَاخِلٌ فِيهِ؛ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمَارَاتِ النَّقْلِ؛ بَلْ يُقْطَعُ غَالِبًا بِأَنَّهُ بُنِيَ مَعَ الدَّارِ؛ وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ حَجَرًا عَظِيمًا وُضِعَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ؛ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ وَضْعُهُ بَعْدَ الْبِنَاءِ؛ فَهَذَا أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ؛ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي كُتُبِ الْعِلْمِ يُوجَدُ عَلَى ظَهْرِهَا وَهَوَامِشِهَا كِتَابَةُ الْوَقْفِ، هَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِكَوْنِهَا وَقْفًا بِذَلِكَ؟ .
قِيلَ: هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، فَإِذَا رَأَيْنَا كُتُبًا مُودَعَةً فِي خِزَانَةٍ، وَعَلَيْهَا كِتَابَةُ " الْوَقْفِ " وَهِيَ كَذَلِكَ مُدَّةٌ مُتَطَاوِلَةٌ، وَقَدْ اُشْتُهِرَتْ بِذَلِكَ: لَمْ نَسْتَرِبْ فِي كَوْنِهَا وَقْفًا؛ وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَدْرَسَةِ الَّتِي عُهِدَتْ لِذَلِكَ؛ وَانْقَطَعَتْ كُتُبُ وَقْفِهَا أَوْ فُقِدَتْ، وَلَكِنْ تَعَالَمَ النَّاسُ عَلَى تَطَاوُلِ الْمُدَّةِ كَوْنَهَا وَقْفًا، فَتَكْفِي فِي ذَلِكَ الِاسْتِفَاضَةُ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَثْبُتُ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَكَذَلِكَ مَصْرِفُهُ، وَأَمَّا إذَا رَأَيْنَا كِتَابًا لَا نَعْلَمُ مُقِرَّهُ وَلَا عُرِفَ مَنْ كَتَبَ عَلَيْهِ الْوَقْفَ، فَهَذَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ فِي أَمْرِهِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَالُهُ.
وَالْمُعَوَّلُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقَرَائِنِ، فَإِنْ قَوِيَتْ حُكِمَ بِمُوجَبِهَا، وَإِنْ ضَعُفَتْ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهَا، وَإِنْ تَوَسَّطَتْ: طَلَبَ الِاسْتِظْهَارَ، وَسَلَكَ طَرِيقَ الِاحْتِيَاطِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute