مُخْبِرٌ، وَالْمُخْبِرُ شَاهِدٌ وَكُلُّ مَنْ شَهِدَ بِشَيْءٍ فَقَدْ أَخْبَرَ بِهِ، وَالشَّرِيعَةُ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ ذَلِكَ أَصْلًا، وَإِنَّمَا هَذَا عَلَى أَصْلِ مَنْ اشْتَرَطَ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ لَفْظَ " الشَّهَادَةِ " دُونَ مُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ضَعْفِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ الْأَدِلَّةُ كَثِيرَةٌ - مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ.
وَالْقَضَايَا الَّتِي رُوِيَتْ فِي الْقَافَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ بَعْدَهُ: لَيْسَ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، مِنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا: الْقَائِفُ تَلَفَّظَ بِلَفْظَةِ " أَشْهَدُ أَنَّهُ ابْنُهُ " وَلَا يَتَلَفَّظُ بِذَلِكَ الْقَائِفُ أَصْلًا، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاعْتِمَادُ عَلَى مُجَرَّدِ خَبَرِهِ، وَهُوَ شَهَادَةٌ مِنْهُ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ، وَنُصُوصُ أَحْمَدَ لَا تُشْعِرُ بِهَذَا الْبِنَاءِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِوَجْهٍ، وَإِنَّمَا الْمُتَأَخِّرُونَ يَتَصَرَّفُونَ فِي نُصُوصِ الْأَئِمَّةِ، وَيَبْنُونَهَا عَلَى مَا لَمْ يَخْطِرْ لِأَصْحَابِهَا بِبَالٍ، وَلَا جَرَى لَهُمْ فِي مَقَالٍ، وَيَتَنَاقَلُهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، ثُمَّ يَلْزَمُهُمْ مِنْ طَرْدِهِ لَوَازِمُ لَا يَقُولُ بِهَا الْأَئِمَّةُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَطْرُدُهَا وَيَلْتَزِمُ الْقَوْلَ بِهَا، وَيُضِيفُ ذَلِكَ إلَى الْأَئِمَّةِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ فَيُرَوَّجُ بَيْنَ النَّاسِ بِجَاهِ الْأَئِمَّةِ، وَيُفْتِي وَيَحْكُمُ بِهِ وَالْإِمَامُ لَمْ يَقُلْهُ قَطُّ، بَلْ يَكُونُ قَدْ نَصَّ عَلَى خِلَافِهِ.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ نُصُوصَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّسَائِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ الْوَلَدِ يَدَّعِيهِ الرَّجُلَانِ؟ قَالَ: يَدَّعِي لَهُ رَجُلَانِ مِنْ الْقَافَةِ، فَإِنْ أَلْحَقَاهُ بِأَحَدِهِمَا: فَهُوَ لَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد الْمِصِّيصِيُّ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَارِيَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَقَعَا عَلَيْهَا؟ قَالَ: إنْ أَلْحَقُوهُ بِأَحَدِهِمَا فَهُوَ لَهُ، قِيلَ لَهُ: إنْ قَالَ أَحَدُ الْقَافَةِ: هُوَ لِهَذَا، وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ لِهَذَا؟ قَالَ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُ وَاحِدٍ حَتَّى يَجْتَمِعَ اثْنَانِ، يَكُونَانِ كَشَاهِدَيْنِ.
وَقَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنْ قَالَ أَحَدُ الْقَافَةِ: هُوَ لِهَذَا.
وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ لِهَذَا؟ قَالَ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُ وَاحِدٍ حَتَّى يَجْتَمِعَ اثْنَانِ، فَيَكُونَا كَشَاهِدَيْنِ، وَإِذَا شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ الْقَافَةِ أَنَّهُ لِهَذَا: فَهُوَ لَهُ.
وَاحْتَجَّ مَنْ رَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ حُكْمٌ بِالشَّبَهِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَدُ، كَالْحُكْمِ بِالْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ.
قَالُوا: بَلْ هُوَ أَوْلَى لِأَنَّ دَرْكَ الْمِثْلِيَّةِ فِي الصَّيْدِ أَظْهَرُ بِكَثِيرٍ مِنْ دَرْكِهَا هَاهُنَا: فَإِذَا تَابَعَ الْقَائِفُ غَيْرَهُ سَكَنَتْ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّتْ إلَى قَوْلِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ - فِي الْوَلَدِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ: يَدَّعِي الْقَائِفُ، فَإِذَا قَالَ هُوَ مِنْهُمَا: فَهُوَ مِنْهُمَا، نَظَرًا إلَى مَا يَقُولُ الْقَائِفُ، وَإِنْ جَعَلَهُ لِوَاحِدٍ: فَهُوَ لِوَاحِدٍ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ: وَسُئِلَ عَنْ الْقَائِفِ: هَلْ يُقْضَى بِقَوْلِهِ؟ فَقَالَ: يُقْضَى بِذَلِكَ إذَا عَلِمَ.
وَمِنْ حُجَّةِ هَذَا الْقَوْلِ - وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَصَاحِبِ " الْمُسْتَوْعِبِ "، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ