للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: ٧٨] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» فَأَيُّ حَرَجٍ وَضَرَرٍ وَإِضْرَارٍ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؟

الثَّانِي: أَنْ يُطَلَّقَ عَلَيْهِ الْجَمِيعُ، مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّهُ إنَّمَا طَلَّقَ وَاحِدَةً، لَا الْجَمِيعَ، فَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ بِالْجَمِيعِ - مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ الْجَمِيعَ - تَرُدُّهُ أُصُولُ الشَّرْعِ وَأَدِلَّتُهُ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَشْكُوكٌ فِيهَا: هَلْ هِيَ الْمُطَلَّقَةُ أَمْ لَا؟ فَلَا تَطْلُقُ بِالشَّكِّ، وَلَا يُمْكِنُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ بِوَاحِدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى بِأَنْ يُوقِعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ مِنْ الْبَعْضِ، وَالْقُرْعَةُ قَدْ تُخْرِجُ غَيْرَ الْمُطَلَّقَةِ، فَإِنَّهَا كَمَا يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ عَلَى غَيْرِهَا، فَإِذَا أَخْطَأَتْ الْمُطَلَّقَةَ وَأَصَابَتْ غَيْرَهَا أَفْضَى ذَلِكَ إلَى تَحْرِيمِ مَنْ هِيَ زَوْجَةٌ، وَحِلِّ مَنْ هِيَ أَجْنَبِيَّةٌ.

وَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ كُلُّهَا تَعَيَّنَ هَذَا التَّقْرِيرُ، وَهُوَ بَقَاءُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهَا الْمُطَلَّقَةُ، وَإِذَا كَانَ النِّكَاحُ بَاقِيًا فِيهَا، فَأَحْكَامُهُ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا بَقَاءُ النِّكَاحِ وَتَحْرِيمُ الْوَطْءِ دَائِمًا: فَلَا وَجْهَ لَهُ.

فَهَذَا الْقَوْلُ: وَالْقَوْلُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْجَمِيعِ: مُتَقَابِلَانِ، وَأَدِلَّتُهُمَا تَكَادُ أَنْ تَتَكَافَأَ، لَا احْتِيَاطَ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ بِالْجَمِيعِ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِبَاحَتَهُ بِالشَّكِّ لِغَيْرِهِ.

قَالَ الْمُقْرِعُونَ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقُرْعَةَ طَرِيقًا إلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي كِتَابِهِ، وَفَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَ بِهَا، وَحَكَمَ بِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا، وَكُلُّ قَوْلٍ غَيْرُ الْقَوْلِ بِهَا: فَإِنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدَهُ تَرُدُّهُ.

أَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى الْجَمِيعِ - مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ إنَّمَا أَوْقَعَهُ عَلَى وَاحِدَةٍ - فَتَطْلِيقٌ لِغَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ طَلَّقَ طَلْقَةً وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا، حَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَوْفَى عَدَدَ الطَّلَاقِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا: هُوَ جَازِمٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ عَدَدَ الطَّلْقَاتِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ قَدْ شَكَّ: هَلْ طَلَّقَهَا أَمْ لَا؟ وَغَايَتُهُ: أَنَّهُ قَدْ تَيَقَّنَ تَحْرِيمًا فِي وَاحِدَةٍ لَا بِعَيْنِهَا، فَكَيْفَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا؟ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ اشْتَبَهَتْ الْمُحَلَّلَةُ بِالْمُحَرَّمَةِ، فَحُرِّمَتَا مَعًا، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ، وَمَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ. قِيلَ: هَاهُنَا مَعَنَا أَصْلٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ الْأَصْلِيُّ، وَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي سَبَبِ الْحِلِّ، فَلَا يُرْفَعُ التَّحْرِيمُ الْأَصْلِيُّ إلَّا بِالنِّكَاحِ، ثُمَّ وَقَعَ فِي عَيْنٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، وَمَعَنَا أَصْلُ الْحِلِّ الْمُسْتَصْحَبِ، فَلَا يُمْكِنُ تَعْمِيمُ التَّحْرِيمِ، وَلَا إلْغَاؤُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إلَى تَعْيِينِ مَحَلِّهِ إلَّا بِالْقُرْعَةِ، فَتَعَيَّنَتْ طَرِيقًا.

قَالُوا: وَأَيْضًا فَإِنَّ الطَّلَاقَ قَدْ وَقَعَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مُعَيَّنَةٍ؛ لِامْتِنَاعِ وُقُوعِهِ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَلَمْ

<<  <   >  >>