يَمْلِكْ الْمُطَلِّقُ صَرْفَهُ إلَى أَيَّتِهِنَّ شَاءَ، لَكِنَّ التَّعْيِينَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا، وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَيْسَ لَنَا طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَتِهِ، فَتَعَيَّنَتْ الْقُرْعَةُ.
يُوَضِّحُهُ: أَنَّ التَّعْيِينَ مِنْ الْمُطَلِّقِ لَيْسَ إنْشَاءً لِلطَّلَاقِ فِي الْمُعَيَّنَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ إنْشَاءً لَمْ يَكُنْ الْمُتَقَدِّمُ طَلَاقًا، وَلَكَانَ الْجَمِيعُ حَلَالًا لَهُ، وَلَمَا أُمِرَ بِأَنْ يُنْشِئَ الطَّلَاقَ، وَلَا افْتَقَرَ إلَى لَفْظٍ يَقَعُ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إنْشَاءً فَهُوَ إخْبَارٌ مِنْهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْمُعَيَّنَةَ هِيَ الَّتِي أَوْقَعْتُ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ، وَهَذَا خَبَرٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ، بَلْ هُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ التَّعْيِينَ إمَّا أَنْ يَكُونَ إنْشَاءً لِلطَّلَاقِ، أَوْ إخْبَارًا، وَلَا يَصْلُحُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.
فَإِنْ قِيلَ: بَلْ هُوَ إنْشَاءٌ عِنْدَنَا فِي الْمُبْهَمَةِ، وَأَمَّا الْمَنْسِيَّةُ: فَهُوَ وَاقِعٌ مِنْ حِينِ طَلَّقَ. قِيلَ: لَا يَصِحُّ جَعْلُهُ إنْشَاءً لِلطَّلَاقِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَعَ بِإِحْدَاهُنَّ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُنْشِئَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ اسْتَحَالَ إنْشَاؤُهُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَلْزَمُكُمْ أَيْضًا، لِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ مِنْ حِينِ الْإِقْرَاعِ، قِيلَ: بَلْ الطَّلَاقُ عِنْدَنَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاقِعٌ مِنْ حِينِ الْإِيقَاعِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ - فِي رَجُلٍ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَطَلَّقَ إحْدَاهُنَّ وَتَزَوَّجَ أُخْرَى، وَمَاتَ، وَلَمْ يَدْرِ أَيَّ الْأَرْبَعِ طَلَّقَ - فَلِهَذِهِ الْأَخِيرَةِ: رُبُعُ الثُّمُنِ، ثُمَّ يُقْرِعُ بَيْنَ الْأَرْبَعِ، فَأَيَّتُهُنَّ قَرَعَتْ أُخْرِجَتْ، وَوَرِثَ الْبَوَاقِي.
قَالَ الْقَاضِي: فَقَدْ حَكَمَ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْخَامِسَةِ قَبْلَ تَعْيِينِ الْمُطَلَّقَةِ، قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى، وُقُوعِ الطَّلَاقِ مِنْ حِينِ الْإِيقَاعِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ حِينِ التَّعْيِينِ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ الْخَامِسَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا بِعَيْنِهِ يُرَدُّ عَلَيْكُمْ فِي التَّعْيِينِ بِالْقُرْعَةِ، وَالْجَوَابُ حِينَئِذٍ وَاحِدٌ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ التَّعْيِينِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ تَعْيِينَ الْمُكَلَّفِ تَابِعٌ لِاخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَتَعَيُّنُ الْقُرْعَةِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْعَبْدُ يَفْعَلُ الْقُرْعَةَ وَهُوَ يَنْتَظِرُ مَا يُعَيِّنُهُ لَهُ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ، شَاءَ أَمْ أَبَى. وَهَذَا هُوَ سِرُّ الْمَسْأَلَةِ وَفِقْهُهَا، فَإِنَّ التَّعْيِينَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إلَيْهِ بِالشَّرْعِ فُوِّضَ إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَصَارَ الْحُكْمُ بِهِ شَرْعِيًّا قَدَرِيًّا: شَرْعِيًّا فِي فِعْلِ الْقُرْعَةِ، وَقَدَرِيًّا: فِيمَا تَخْرُجُ بِهِ، وَذَلِكَ إلَى اللَّهِ، لَا إلَى الْمُكَلَّفِ. فَلَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا وَلَا أَبْلَغَ فِي مُوَافَقَتِهِ شَرْعَ اللَّهِ وَقَدَرَهُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، ثُمَّ أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُطَلَّقَةَ بِاخْتِيَارِهِ، فَهَكَذَا إذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً لَا بِعَيْنِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: الْفَرْقُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ هَاهُنَا قَدْ وَقَعَ عَلَى وَاحِدَةٍ بِعَيْنِهَا، فَإِذَا أَشْكَلَتْ لَمْ يَجُزْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute