للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أَنْ يُعَيِّنَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُعَيِّنَ غَيْرَ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، وَيَسْتَدِيمَ نِكَاحَ الَّتِي طَلَّقَهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ عَلَى إحْدَاهُنَّ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، فَلَيْسَ فِي تَعْيِينِهِ إيقَاعٌ لِلطَّلَاقِ عَلَى مَنْ لَمْ يَقَعْ بِهَا، وَصَرْفُهُ عَمَّنْ وَقَعَ بِهَا.

قِيلَ: إحْدَاهُمَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ فِي الْمَسِيسِ، وَلَا يَدْرِي عَيْنَهَا، فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ التَّعْيِينَ بِلَا سَبَبٍ فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ، لَمْ يَمْلِكْهُ فِي الْأُخْرَى، وَهَذَا أَيْضًا سِرُّ الْمَسْأَلَةِ وَفِقْهُهَا، فَإِنَّ التَّعْيِينَ بِالْقُرْعَةِ تَعْيِينٌ بِسَبَبٍ قَدْ نَصَّبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ سَبَبًا لِلتَّعْيِينِ عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهِ، وَالتَّعْيِينَ بِالِاخْتِيَارِ تَعْيِينٌ بِلَا سَبَبٍ، إذْ هَذَا فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ، حَيْثُ انْتَفَتْ أَسْبَابُ التَّعْيِينِ وَعَلَامَاتُهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْيِينَ بِالسَّبَبِ الَّذِي نَصَّبَهُ الشَّرْعُ لَهُ أَوْلَى مِنْ التَّعَيُّنِ الَّذِي لَا سَبَبَ لَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: الْمَنْسِيَّةُ وَالْمُشْتَبِهَةُ يَجُوزُ أَنْ تُذْكَرَ، وَتُعْلَمَ عَيْنُهَا بِزَوَالِ، الِاشْتِبَاهِ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَمْلِكْ صَرْفَ الطَّلَاقِ فِيهَا إلَى مَنْ أَرَادَ، بِخِلَافِ الْمُبْهَمَةِ فَإِنَّهُ لَا يُرْجَى ذَلِكَ فِيهَا.

قِيلَ: وَكَذَلِكَ الْمَنْسِيَّةُ وَالْمُشْكِلَةُ إذَا عَدِمَ أَسْبَابَ الْعِلْمِ بِتَعْيِينِهَا، فَإِنَّهُ يَصِيرُ فِي إبْقَائِهَا إضْرَارٌ بِهِ وَبِهَا، وَوَقْفٌ لِلْأَحْكَامِ، وَجَعْلُ الْمَرْأَةِ مُعَلَّقَةً بَاقِي عُمْرِهَا، لَا ذَاتَ زَوْجٍ وَلَا مُطَلَّقَةً وَهَذَا لَا عَهْدَ لَنَا بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ.

١٢٥ - (فَصْلٌ)

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ تَعْيِينِ الْمُطَلَّقَةِ بِالْقُرْعَةِ: حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي عِتْقِ الْأَعْبُدِ السِّتَّةِ، فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ فِي الْجَمِيعِ لَمَّا كَانَ بَاطِلًا، جُعِلَ كَأَنَّهُ أَعْتَقَ ثُلُثًا مِنْهُمْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَعَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقُرْعَةِ، وَالطَّلَاقُ كَالْعَتَاقِ فِي هَذَا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إزَالَةُ مِلْكٍ مَبْنِيٍّ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ، فَإِذَا اشْتَبَهَ الْمَمْلُوكُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِغَيْرِهِ: لَمْ يُجْعَلْ التَّعْيِينُ إلَى اخْتِيَارِ الْمَالِكِ.

فَإِنْ قِيلَ: الْعَتَاقُ أَصْلُهُ الْمِلْكُ، فَلَمَّا دَخَلَتْ الْقُرْعَةُ فِي أَصْلِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ فِي حَالِ الْقِسْمَةِ، وَطَرْحِ الْقُرْعَةِ عَلَى السِّهَامِ، دَخَلَتْ لِتَمْيِيزِ الْمِلْكِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ، لِأَنَّ أَصْلَهُ النِّكَاحُ، وَالنِّكَاحُ لَا تَدْخُلُهُ الْقُرْعَةُ، فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ.

قِيلَ: وَمَنْ سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّ الْقُرْعَةَ لَا تَدْخُلُ فِي النِّكَاحِ، بَلْ الصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ. دُخُولُهَا فِيهِ، فِيمَا إذَا زَوَّجَهَا الْوَلِيَّانِ، وَلَمْ يَعْلَمْ السَّابِقُ مِنْهُمَا، فَإِنَّا نُقْرِعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ حُكِمَ لَهُ بِالنِّكَاحِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْأَوَّلُ، هَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَحَنْبَلٍ.

وَنَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ وَمُهَنَّا: لَا يُقْرَعُ فِي ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا: فَلَا يَلْزَمُ إذَا لَمْ تَدْخُلْ الْقُرْعَةُ فِي الْحُكْمِ: أَلَّا تَدْخُلَ فِي رَفْعِهِ، فَإِنَّ حَدَّ الزِّنَا لَا يَثْبُتُ

<<  <   >  >>