فَإِنْ قُلْتُمْ: التَّرَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ النِّسَاءِ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ، وَلَا كَذَلِكَ هَاهُنَا، لِأَنَّ التَّرَاضِيَ عَلَى فَسْخِ النِّكَاحِ وَنَقْلِهِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ لَا يَجُوزُ. قُلْنَا: لَيْسَتْ الْقُرْعَةُ فِي الطَّلَاقِ نَقْلًا لَهُ عَمَّنْ اسْتَحَقَّهُ إلَى غَيْرِهِ، بَلْ هِيَ كَاشِفَةٌ عَمَّنْ تَوَجَّهَ الطَّلَاقُ إلَيْهَا وَوَقَعَ عَلَيْهَا.
١٢٦ - (فَصْلٌ)
قَالَ الْمُعَيِّنُونَ بِالِاخْتِيَارِ: قَدْ حَصَلَ التَّحْرِيمُ فِي وَاحِدَةٍ لَا بِعَيْنِهَا، فَكَانَ لَهُ تَعْيِينُهَا بِاخْتِيَارِهِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَتَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ، أَوْ أُخْتَانِ: اخْتَارَ.
قَالَ أَصْحَابُ الْقُرْعَةِ: هَذَا الْقِيَاسُ مُبْطَلٌ، أَوَّلًا بِالْمَنْسِيَّةِ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَةَ مِنْهُنَّ بَعْدَ النِّسْيَانِ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ تَعْيِينُهَا. وَهَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ قَوِيٍّ، فَإِنَّ التَّحْرِيمَ هَاهُنَا وَقَعَ فِي مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ أَشْكَلَتْ، بَلْ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ، أَنْ يُقَالَ: لَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ الْأُخْتُ وَالْخَامِسَةُ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ، بَلْ إذَا عَيَّنَ الْمُمْسَكَاتِ أَوْ الْمُفَارَقَاتِ: حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ حِينِ التَّعْيِينِ، وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ مِنْ حِينَئِذٍ.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الشَّارِعَ خَيَّرَهُ بَيْنَ مَنْ يُمْسِكُ وَمَنْ يُفَارِقُ؛ نَظَرًا لَهُ، وَتَوْسِعَةً عَلَيْهِ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْقُرْعَةِ هَاهُنَا فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَنْ نِكَاحِهِ مَنْ يُحِبُّهَا، وَأَبْقَتْ عَلَيْهِ مِنْ يُبْغِضُهَا، وَدُخُولُهُ فِي الْإِسْلَامِ يَقْتَضِي تَرْغِيبَهُ فِيهِ، وَتَحْبِيبُهُ إلَيْهِ، فَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ: رَدُّ ذَلِكَ إلَى اخْتِيَارِهِ وَشَهْوَتِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا طَلَّقَ هُوَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ. إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ فَاسِدٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَنْكَسِرُ بِمَا إذَا اخْتَلَطَتْ زَوْجَتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ، أَوْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَعْيِينُ الْمُحَرَّمَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَلَا إخْرَاجُهَا بِالْقُرْعَةِ. قُلْنَا: نَحْنُ لَمْ نَسْتَدِلَّ بِدَلِيلٍ يَرُدُّ عَلَيْنَا فِيهِ هَذَا، بِخِلَافِ مَنْ اسْتَدَلَّ بِمَنْ يَنْكَسِرُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: وَالتَّحْرِيمُ هَاهُنَا كَانَ فِي مُعَيَّنٍ ثُمَّ اشْتَبَهَ. قِيلَ: لَمَّا اشْتَبَهَ وَزَالَ دَلِيلُ تَعْيِينِهِ: صَارَ كَالْمُبْهَمِ، وَهَذَا حُجَّةُ مَالِكٍ عَلَيْكُمْ، حَيْثُ حَرَّمَ الْجَمِيعَ، لِإِبْهَامِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْهُنَّ.
قَالَ أَصْحَابُ التَّعْيِينِ: التَّحْرِيمُ هَاهُنَا حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِفَرْدٍ لَا بِعَيْنِهِ مِنْ جُمْلَةٍ فَكَانَ الْمَرْجِعُ فِي تَعْيِينِهِ إلَى الْمُكَلَّفِ، كَمَا لَوْ بَاعَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute