وَقَالَ أَصْحَابُ الْقُرْعَةِ: الْإِبْهَامُ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْبَيْعِ، حَيْثُ تَتَسَاوَى الْأَجْزَاءُ، وَيَقُومُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا مَقَامَ الْآخَرِ فِي التَّعْيِينِ. فَلَا تُفِيدُ الْقُرْعَةُ هَاهُنَا قَدْرًا زَائِدًا عَلَى التَّعْيِينِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ، فَإِنَّ مَحَلَّهُ لَا تَتَسَاوَى أَفْرَادُهُ، وَلَا الْغَرَضُ مِنْهُ، فَهُوَ بِمَسْأَلَةِ الْمُسَافِرِ بِإِحْدَى الزَّوْجَاتِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِمَسْأَلَةِ الْقَفِيزِ مِنْ الصُّبْرَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التُّهْمَةَ تَلْحَقُ فِي التَّعْيِينِ هَاهُنَا، وَفِي مَسْأَلَةِ الْقِسْمَةِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ، وَلَا تَلْحَقُ فِي التَّعْيِينِ فِي مَسْأَلَةِ الْقَفِيزِ مِنْ الصُّبْرَةِ الْمُتَسَاوِيَةِ؟ وَهَذَا فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي تَلْحَقُ فِيهِ التُّهْمَةُ شُرِعَتْ فِيهِ الْقُرْعَةُ نَفْيًا لَهَا وَمَا لَا تَلْحَقُ فِيهِ لَا فَائِدَةَ فِيهَا. عَلَى أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ مُنْتَقَضٌ بِمَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مُبْهَمًا مِنْ عَبِيدِهِ، أَوْ أَرَادَ السَّفَرَ بِإِحْدَى نِسَائِهِ.
قَالَ أَصْحَابُ التَّعْيِينِ: لَمَّا كَانَ لَهُ تَعْيِينُ الْمُطَلَّقَةِ فِي الِابْتِدَاءِ، كَانَ لَهُ تَعْيِينُهَا فِي ثَانِي الْحَالِ بِاخْتِيَارِهِ.
قَالَ أَصْحَابُ الْقُرْعَةِ: هَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالتَّعْيِينِ حَقٌّ لِغَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ، وَبَعْدَ الْإِيقَاعِ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُنَّ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ قَدْ تَدَّعِي أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ عَلَيْهَا، لِتَمْلِكَ بِهِ بُضْعَهَا، أَوْ وَاقِعٌ عَلَى غَيْرِهَا لِتَسْتَبْقِيَ بِهِ نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا، فَلَمْ يَمْلِكْ هُوَ تَعْيِينَهُ لِلتُّهْمَةِ، بِخِلَافِ الِابْتِدَاءِ.
قَالَ الْمُبْطِلُونَ لِلْقُرْعَةِ: الْقُرْعَةُ قِمَارٌ وَمَيْسِرٌ، وَقَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ مَشْرُوعَةً قَبْلَ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الْقُرْعَةِ: قَدْ شَرَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْقُرْعَةَ، وَأَخْبَرَ بِهَا عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، مُقَرِّرًا لِحُكْمِهَا، غَيْرَ ذَامٍّ لَهَا، وَفَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَقَدْ صَانَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ الْقِمَارِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، فَلَمْ يُشَرِّعْ لِعِبَادِهِ الْقِمَارَ قَطُّ، وَلَا جَاءَ بِهِ نَبِيٌّ أَصْلًا، فَالْقُرْعَةُ شَرْعُهُ وَدِينُهُ، وَسُنَّةُ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ.
وَقَالَ الْمَانِعُونَ مِنْ الْقُرْعَةِ: قَدْ اشْتَبَهَتْ الْمُحَلَّلَةُ بِالْمُحَرَّمَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا تُبِيحُهُ الضَّرُورَةُ، فَلَمْ يُمْكِنْ لَهُ إخْرَاجُهَا بِالْقُرْعَةِ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ، أَوْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الْقُرْعَةِ: الْفَرْقُ أَنَّنَا هَاهُنَا نَسْتَصْحِبُ أَصْلَ التَّحْرِيمِ، وَلَا نُزِيلُهُ بِالشَّكِّ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ التَّحْرِيمَ الْأَصْلِيَّ قَدْ زَالَ بِالنِّكَاحِ، وَشَكَكْنَا فِي وُقُوعِ التَّحْرِيمِ الطَّارِئِ بِأَيِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَقَعَ، فَلَا يَصِحُّ إلْحَاقُ إحْدَى الصُّورَتَيْنِ بِالْأُخْرَى.
قَالَ الْمَانِعُونَ: قَدْ تُخْرِجُ الْقُرْعَةُ غَيْرَ الْمُطَلَّقَةِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ لَهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ مَا تُخْرِجُ بِهِ الْمُطَلَّقَةَ بِعَيْنِهَا.
وَقَالَ الْمُقْرِعُونَ: هَذَا - أَوَّلًا - اعْتِرَاضٌ عَلَى السُّنَّةِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ التَّعْيِينَ بِهَا أَوْلَى مِنْ التَّعْيِينِ بِالِاعْتِرَاضِ وَالتَّشَهِّي، أَوْ جَعْلِ الْمَرْأَةِ مُعَلَّقَةً إلَى الْمَوْتِ، أَوْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ بِأَرْبَعٍ لِأَجْلِ إيقَاعِهِ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ.