[الباب الثالث: نشأة العقيدة الصوفية وتطورها]
[الفصل الأول: طريق الهداية الصوفي]
لم يصل في ـ حدود علمي ـ أحد ممن بحث في التصوف إلى معرفة الرجل الأولي الذي تسمى باسم (الصوفي) في الإسلام ولا من وضع اللبنات الأولى لهذا الفكر.
ولا شك أن التصوف منهج نشأ قبل الإسلام فكرًا وسلوكًا وعقيدة، وأنه كان في كل الأمم والديانات وخاصة في البرهمية الهندوكية والفلسفة الإشراقية اليونانية والمجوسية الفارسية، وكذلك نشأت النصرانية ـ ولا شك أن التصوف غير الرهبانية وغير الزهد كما سنعلم تفصيلًا ـ ثم انتقل بعد ذلك إلى الفكر الإسلامي عن طريق الزنادقة المجوس، وأخذ مجراه في واقع الأمة الإسلامية وتطور حتى بلغ شأوه وألفت مصادره، ووضعت أصوله وقواعده النهائية في القرن الرابع والخامس الهجري.
ولكن بعض الكتاب ظن أن هناك صلة بين التصوف والزهد، ولذلك نسب إلى التصوف كل من عرف بالزهد والرغبة عن الدنيا، والإقبال على الله كإبراهيم وكالفضل بن عياض، وعبد الله بن المبارك وبشر الحافي وإبراهيم بن أدهم ونحوهم من العباد والزهاد. . والذي ساعد في هذا الخلط بين الزهد والتصوف أن الذين وضعوا طبقات الصوفية جعلوا أمثال هؤلاء أئمة في هذا الشأن، بل تجاوز بعضهم الحدود من أمثال الشعراني، وجعل الخلفاء الراشدين هم أو رجال في طبقات الصوفية وحاشاهم. .
والحال أنه شتان ما بين الزهد والتصوف فالزهد في الدنيا فضيلة وعمل مشروع مستحب وهو خلق الأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين الذين يؤثرون ما عند الله على التنعم، والتلذذ والانشغال بالمباحات، بل يتركون بعض الطيبات في المباحات طمعًا فيما عند الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: ٩] . وقال أيضًا: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا} [الإنسان: ٩] .
وفي الصحيحين أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت (كان يأتي الهلال والهلال والهلال ثلاثة أهلة في شهرين ولا يوقد في أبيات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نار) . قيل فما كان طعامكم: قالت (الأسودان التمر والماء) .
وهذا لكمال زهدهم، ورغبتهم عن الدنيا. وأما التصوف فمنهج آخر لأن الصوفي إذا تحقق في صوفيته يصبح الزهد عنده شيئًا لا معنى له، فهو قد يحتاج الزهد فقط في أول الطريق الصوفي ثم في النهاية عليه أن يعب من كل ما قدر عليه ولو كان حرامًا في الشرع خمرًا أو زنا، أو حتى إتيانًا للذكران لأن عقيدة وحدة الوجود لا تجعل في النهاية فرقًا بين الزنديق والصديق، ولا بين الأخت والأجنبية، ولا بين الملَك والشيطان، بل ولا بين العبد والرب على حد قول ابن عربي المهندس الأخير للفكر الصوفي:
العبد رب والرب عبد ** ياليت شعري من المكلف؟ !
إن قلت عبد فذاك ربُّ ** وإن قلت رب أنى يكلف؟ !
وهذا سيأتي تفصيله وبيانه، والشاهد هنا أن هناك فرقًا هائلًا بين الزهد الذي هو فضيلة ونهاية في الشريعة الإسلامية وبين التصوف الذي قد يجعل الزهد من شعائره ولكنه للمبتدئين فقط وأما في النهاية فيجب عند الصوفي أن يتمتع بكل ما قدر عليه.
وأعود فأقول أنه لا يعرف بالتحديد من أول من تسمى بالصوفي حقيقة في الإسلام وكنت في الطبعة الثانية من الكتاب لما قرأت ما كتبه أبو عبد الرحمن السلمي صاحب طبقات الصوفية عن إبراهيم بن أدهم وما روي بإسناده من حكايات شممت منها بدايات هذا الفكر وأول بذوره وقرأت ترجمة إبراهيم بن أدهم فوجدت أن أئمة الجرح والتعديل منهم من يوثقه ومنهم ينسبه إلى الخرافة والجهل بشرع الله فغلب على ظني أنه ربما كان الرائد الأول الذي وضع البذرة الصوفية. .
ولقد لفت نظري بعد ذلك كثير من الأخوة أن شيخ الإسلام ابن تيمية أثنى على إبراهيم بن أدهم فكيف يكون منتميًا إلى هذا المنهج وكنت قد قرأت ما كتبه شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ وقد رأيت أنه ربّما يثني على شخص ما من أجل موقف صحيح في العقيدة، وهو قد لا يرضى عنه في موقف آخر بل إنه كثيرًا ما يستدل بأقوال النصارى واليهود إذا وافقت شيئًا من الحق. .
وبعد أن أعدت النظر وجدتُ أن كلام أئمة الجرح والتعديل لا يرقى إلى اتهام إبراهيم بن أدهم ـ رحمه الله ـ بشيء مما وضعه المتصوفة في عقائدهم ومناهجهم، وأما الحكايات التي رويت عنه والموجودة في طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي فإنه لا يعول عليها في الجرح والتعديل لأن أبا عبد الرحمن السلمي نفسه قد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه كان يضع الحكايات للصوفية ولعل ذلك بل هذا هو الظاهر أن هذا مما كذبه وافتراه على إبراهيم بن أدهم ـ رحمه الله ـ.
وعلى كل حال فيعلم الله أن قصدي من تأليف الكتاب هو بيان الفكر الصوفي من حيث هو مدون ومسطور في كتب القوم وبيان ما فيه من الباطل والتغرير، وأنا أعلم أيضًا أن الذين وضعوا هذا الفكر قد كذبوا على كثير من فضلاء الناس، وزهاد الأمة وليس قصدنا عداوة مع هؤلاء الفضلاء فنعوذ بالله أن نؤذي مسلمًا بلسان أو يد. . وإنما مقصدنا الذب عن عقيدة الإسلام وشريعة سيد المرسلين وبيان ما في هذا الفكر من الانحراف، وما في هذه الحكايات من الباطل.
ومرة أخرى أقول لا نستطيع أن نجزم من هو أول شخص تسمى باسم الصوفي في الإسلام، وألقى بالكلمات الأولى والقواعد الأولى ليؤسس هذا المنهج. ولا شك أن ذلك كان في منتصف أو أوائل القرن الثاني من الهجرة. فإن الإمام الشافعي المتوفي سنة ٢٠٥هـ ـ يقول: " تركت بغداد وقد أحدث الزنادقة فيها شيئًا يسمونه السماع " ا. هـ
(والزنادقة) هنا هم الصوفية (والسماع) هو الغناء والأناشيد التي كانوا يتجمعون عليها، ولا شك أن ظهور الصوفية بهذه البدعة لم يكن وليد سنة أو سنتين إنما كان وليد سنوات تطورت بدعة الصوفية حتى استطاعوا أن يعلنوا بدعتهم بالغناء والطرب بالدفوف ونحو ذلك في عاصمة الخلافة ببغداد، ولا شك أن مثل هذه المظاهر والعقائد المنافية للإسلام الصحيح بدأت دعوة سرية ثم تطورت واستفحل شرها، وأعلن عنها أصحابها ومن أجل ذلك لا يعلم على القطع والحقيقة الرائد الأول للفكر الصوفي في الإسلام وواضع لبناته الأولى. .
ومما يدل على أن الأمر كان سريًا في أوله ما روي عن الإمام أحمد أنه سمع الحارث المحاسبي يجتمع مع جماعة في منزل من المنازل وأنهم يقضون ليلهم في البكاء ومحاسبة النفس والكلام على الخطرات والوساوس وأن الإمام أحمد بعد أن استمع إليهم خلسة من منزل مجاور أصبح يقول: نفروا الناس عن الحارث المحاسبي، وقال لمن سأله هل يجلس معهم ويقضي الليل معهم قال: لا أرى لك أن تجالسهم.
والشاهد أن هذه البدعة لا شك أنها بدأت سرية ثم تطورت واستعلنت.
ونعود إلى أبي عبد الرحمن السلمي المتوفي سنة ٤١٢هـ ـ والذي لفق حكايات الصوفية ووضعها على ألسنة المشايخ السابقين لنجد أنه جعل إبراهيم بن أدهم رائدًا ومؤسسًا لبدايات هذا الفكر. .
نأتي إلى حكايات السلمي لنناقش هذه الحكايات لا من حيث ثبوتها ونفيها ولكن من حيث أنها قد أصبحت هي العماد الذي قام عليه هذا الفكر. . نأتي لنناقش هذه الحكايات على ضوء الكتاب والسنة لنرى ما فيها من الباطل ولنعرف كيف بدأ هذا الفكر وتطور:
١ ـ قال أبو عبد الرحمن السلمي (توفي سنة ٤١٢هـ ـ) : " سمعت أبا العباس محمد بن الحسن الخشاب قال حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد المصري، قال حدثني أبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز قال: حدثنا إبراهيم بن بشار قال: صحبت إبراهيم بن أدهم بالشام، أنا وأبو يوسف الغسولي، وأبو عبد الله السنجاري، فقلت: يا أبا إسحاق! خبرني عن بدء أمرك كيف كان؟ قال: كان أبي من ملوك خراسان، وكنت شابًا فركبت إلى الصيد، فخرجت يومًا على دابة لي، ومعي كلب، فأثرت أرنبًا أو ثعلبًا، فبينما أنا أطلبه، إذ هتف بي هاتف لا أراه، فقال: يا إبراهيم: ألهذا خلقت؟ أم بهذا أمرت؟ ففزعت، ووقفت، ثم