الأمر قول أحد الأعراب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: والله إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، وإنما أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار؛ فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:[حولها ندندن](رواه أبو داود (٧٩٢ و٧٩٣) وابن ماجة (٩١٠) وأحمد (٣/٤٧٤ و٥/٧٤) وابن خزيمة، وصحح إسناده الألباني في (صفة الصلاة ـ ٢٠٢)) ، فإذا كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدندن بدعائه حول الجنة، فهل يتصور عقلًا وجود رجل أو امرأة أكمل منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيدعو الله ويعبده لا طمعًا في جنته ولا خوفًا من نار؟ .
وهذه الحالة التي سعى المتصوفة إلى تحقيقها، أعني عبادة الله مجردة عن الطمع والخوف جرت عليهم البلايا: فقد سعوا إلى غاية أخرى بالعبادة وهي القول بالفناء في الرب، وجرهم هذا إلى الجذب، ثم جرهم هذا إلى الحلول، ثم جرهم هذا في النهاية إلى وحدة الوجود.
وفي هذا الفصل من الرسالة سنسوق إليك الأدلة على هذا التسلسل العقائدي.
وقد مر بك أن رابعة العدوية لما اشتكت، وعادها بعض المتصوفة زعمت أن ذلك بسبب غيرة الله عليها (هكذا) لأنها مالت بقلبها إلى الجنة. وإني لأتساءل: من أين لها أن تعلم حب الله لها وقبوله لعملها، فضلًا عن غيرته سبحانه وتعالى عليها؟ وقد وصف الله ـ تبارك وتعالى ـ المؤمنين بقوله:{إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون}[المؤمنون: ٥٧ ـ ٦١] .
وقد سألت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قوله تعالى:{يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة}[المؤمنون: ٦٠] . فقالت يا رسول الله يسرقون ويزنون ويخافون؟ قال: (لا يابنة الصديق، ولكن يصومون ويصلون ويخافون